موجات الصدمة التي أثارها اعلان ولي ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان الاسبوع الماضي احتمال خصخصة شركة "أرامكو" لم تنحسر بعد . البيع المحتمل لجزء على الاقل مما يعتبر "جوهرة" تاج المملكة، فاجأ قطاعي الاستثمار والطاقة حول العالم، والمواطنين السعوديين على السواء، وأثار تكهنات بدوافع القرار وتوقيته وصولا الى تشكيك باحتمال حصوله أًصلا.
ترتبط قصة "أرامكو" بتاريخ المملكة نفسها. هي تعرّف عن نفسها بأنها قصة اكتشاف وتطوير أضخم احتياطت الطاقة التي لم يعرف العالم نظيراً لها ، اضافة الى التحوّل السريع الذي شهدته المملكة العربية السعودية من بلد صحراوي على دولة حديثة معاصرة.
ففي عام 1933، منح مؤسس المملكة الملك عبد العزيز آل سعود شركة "ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا" امتيازاً للتنقيب. وبعد ذلك بخمس سنوات وتحديدا في آذار 1938، اكتشفت الزيت في بئر في الدمام سميت لاحقاً "بئر الخير". ومذذاك ، تطوّرت الشركة التي صار اسمها "أرامكو" من مجرد مؤسسة منتجة للنفط إلى شركة عالمية متكاملة للطاقة والكيميائيات لها شركاتها في أميركا الشمالية وأوربا وآسيا، مع التزامها توفير الطاقة للعالم وزيادة قيمة احتياطاتها النفطية لمصلحة السعوديين.
من ناحية الحجم، تعتبر "أرامكو" امبراطورية مقارنة بكبرى الشركات حول العالم. أصولها النفطية تساوي عشر مرات تلك التي تملكها "ايكسون موبيل"، الشركة النفطية الكبرى.فاذا كانت سوق الاسهم للشركة الاميركية التي تتخذ تكساس مقرا لها تقدر ب400 مليار دولار ،فان الاصول النفطية ل"أرامكو" قد تصل الى أربعة تريليونات دولار.
المحللون في أسواق الطاقة يقرون باستحالة تقديم تقدير دقيق لقيمة شركة تنتج 9,5 ملايين برميل نفط،الا أن بعض التقديرات تذهب الى القول إن قيمتها تصل الى 10 تريليونات، اي عشر مرات القيمة الاجمالية لشركتي "آبل" و"الفابيت" (الشركة الام الجديدة لغوغل).
المعروف أن "أرامكو" تملك احتياطات ضخمة من النفط والغاز ومجموعة كبيرة من المصافي، الا أن التفاصيل محدودة جدا. فالشركة لا تكشف حساباتها ولا عائداتها أو أرباحها. وكل ما هو معروف عنها بعض المعلومات الواردة على الموقع الرسمي للشركة أو المراجعة السنوية ،وآخرها يعود الى 2014.
مجلة "الايكونوميست" نشرت أن ممتلكات الشركة النفطية تشمل أسطولا من الطائرات وملاعب لكرة القدم ونظام مستشفيات ل360 الف شخص.
الاكتتاب العام
الاعلان الاول عن امكان طرح اسهم الشركة للاكتتاب العام جاء على لسان الامير محمد بن سلمان الذي قال إن "القرار سيتخذ خلال الأشهر القليلة المقبلة"، وأنه "، شخصياً متحمس لهذه الخطوة، وأعتقد أنها في مصلحة السوق السعودية وفي مصلحة أرامكو السعودية».
بدورها، أكدت الشركة في بيان أنها بدأت منذ فترة درس خيارات لإتاحة الفرصة، عبر الاكتتاب العام في السوق المالية، أمام شريحة واسعة من المستثمرين لتملك حصة مناسبة من أصولها مباشرة أو من خلال طرح حزمة كبيرة من مشاريعها للاكتتاب في قطاعات عدة، بخاصة قطاع التكرير والبتروكيميائيات .
وقال رئيس مجلس إدارة الشركة خالد الفالح أن أي طرح لأسهمها للاكتتاب العام سيتطلب وقتاً، الا أنه وصف الخطوة بأنها "جدية".
ولعل السؤال البديهي الذي طرح نفسه بعد هذه "القنبلة" يتعلق بالسبب الذي يدعو المملكة الى عرض جزء على الاقل من الشركة العملاقة للبيع في وقت تسجل اسعار النفط المستوى الادنى لها منذ 12 سنة.
النقد وايران
مجموعة من العوامل أثقلت كاهل الاقتصاد السعودي العام الماضي، بينها تراجع الايرادات وزيادة الانفاق العسكري بسبب قيادة الرياض تحالفا عربيا ضد الحوثيين في اليمن. وسجل العجز في موازنة المملكة مستوى قاسيا قيمته 98 مليار دولار اي ما يعادل نحو 15 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي.
محللون كثر رأوا في هذا الوضع سببا رئيسياً وراء الاعلان المتعلق ب"أرامكو". فالمملكة في رأي هؤلاء بحاجة الى النقد، بعدما استخدمت أكثر من 100 مليار من الاحتياطات الاجنبية البالغة قيمتها 650 مليار دولار، لسد الثغرات التي أحدثها تراجع أسعار النفط.
ثمة رأي آخر يعتبر أن هذه الخطوة هي بمثابة ضمانة للبقاء السياسي بالنسبة الى النظام السعودي، وخصوصاً أن بيع حصة ولو صغيرة من الاحتياطات النفطية الكبيرة ل"أرامكو" سيشكل الاكتتاب العام الاكبر في التاريخ.وبذلك يقول موقع "بلومبرغ بيزنس" أن المملكة "تعطي المستثمرين من بيوريا (في ايلينوي) الى شنغهاي مصلحة في أمن النظام".
مخيلة فريق ثالث ذهبت به أبعد. محلل في الشركة المالية "دوغما كابيتال" ومقرها لوغانو في سويسرا قال إن بيع حصة من "ارامكو" قد تجذب أموالا يمكن أن تذهب الى منافسين ، "ويمكن الرياض أن تجفف أسواق المال المتوافرة لقطاع النفط".
وفي تقدير هؤلاء أن ايران هي الخصم الرئيسي الذي تستهدفه "قنبلة" بيع "أرامكو". وعندهم أنها ليس صدفة أن يعلن الامير محمد بن سلمان خبر الاكتتاب العام بعد يومين من اعدام السعودية 47 سجينا، بينهم رجل الدين الشيعي نمر باقر النمر، الامر الذي أطلق سلسلة أحداث تطورت الى أزمة سياسية حادة بين الجانبين.
مارك دوبوفيتز ،المدير التنفيذي ل"المؤسسة من أجل الدفاع عن الديموقراطيات"، وهي مؤسسة أميركية تعنى بسياسة الامن القومي وعارضت الاتفاق النووي مع ايران يرى أن "جزءا من السلاح المالي الذي يستخدمع (السعوديون) هنا يستهدف مديري الصناديف وصناديق التحوط حول العالم وتخييرهم بين العمل مع السعودية أو العمل مع ايران.
وبين التفسيرات المختلفة الابعاد والاهداف، يستبعد الصحافي السعودي جمال خاشقجي أن يكون للاعلان عن اتجاه لفتح الشركة العملاقة أمام الاكتتاب العام علاقة بالمواجهة بين السعودية وايران، ويدرج هذه الخطوة في اطار الاصلاح السياسي والاقتصادي في السعودية.
وكان الامير محمد بن سلمان حدد في مقابلته مع "الايكونوميست" برنامجا لمواجهة العجز المالي خلال السنوات الخمس المقبلة، من خلال سلسلة من الاصلاحات ترمي الى زيادة العائدات غير النفطية وفرض ضريبة على القيمة المضافة واستغلال فرص التعدين في المملكة ، اضافة الى احتياط الاورانيوم.وتطرق ايضاً الى امكان خصخصة الرعاية الصحية والتعليم والصناعات العسكرية وبعض الشركات المملوكة للدولة.
من هذا المنطلق، يقول خاشقجي ل"النهار" أن الامير محمد بن سلمان أراد تأكيد ايمانه بالخصخصة واستعداده للوصول بها الى "أرامكو" نفسها، مضيفا أنه يريد أن يدفع أرامكو الى الشفافية.
الا أنه يلفت الى وجوب التمييز بين الاعمال في التنقيب والانتاج (upstream) وبين الاعمال في المصافي والتكرير (downstream ) ، مؤكدا أن الاكتتاب العام، إذا حصل بعد سنوات، سيكون في جزء بسيط من الشركة. وهو يستند الى الخبراء والنفطيين ليؤكد أن آبار النفط هي ملك وطني لابناء المملكة ، وان الاسواق المالية لا تحتمل حجمها الهائل ولا المصلحة الوطنية تسمح ببيعها.