في دائرة الرئيس نبيه بري الضيّقة كلام واضح وصريح من النوع الذي يمكن أن يُفهم منه أسلوب إدارة عين التينة في تلقّف «الفرصة» الرئاسية التي تحدّث عنها جبران باسيل أمس: كيف يمكن الشعور بانتصار أمام معادلة «تطويب» سمير جعجع زعيماً المسيحيين في مقابل «ترشيح محتمل» وغير مضمون لميشال عون الى الرئاسة؟!
ليس هذا الخطاب الرسمي لعين التينة، لكن كما يطلب جعجع من فرنجية احترام التزامه بالسير بعون رئيسا إذا تأمّنت حظوظه، فإن العونيين يطالبون بالمقابل رئيس مجلس النواب بالالتزام بما قاله، أقلّه علنا في 23 شباط العام الماضي أمام وفد نقابة الصحافة: أي اتفاق يصل اليه المسيحيون أسير به مثل «البولدزر»، وان العوامل الخارجية يمكن أن تؤثر 100% وصفر%، وعند اتفاق اللبنانيين لا مجال للخارج ويصبح تأثيره صفراً.
باستثناء رافعي الأنخاب في قلعة معراب، استفزّت «احتفالية الحكيم» الجميع. بعض المقرّبين من بري وَصَف هؤلاء بـ «المتوهّمين»، مع تأكيد أن الإجماع الوطني على الترشيح يفوق أهمية التوافقات المسيحية الجزئية.
المقدّمة لكلام كهذا كانت قد صدرت عن رئيس مجلس النواب شخصيا حين تراجع عن أقواله المشجّعة للتوافق المسيحي على الرئاسة بدعوته، في حال ترشيح جعجع لعون، لنزول «الجنرال» و «البيك» الى ساحة النجمة والتنافس، من دون التسليم بأن ترشيحاً كهذا سيلغي مفاعيل ترشيح فرنجية.
في الوسط المسيحي ما يشبه «حالة رعب» تجنح نحو ضرورة استيعاب «الضربة» للتكيّف أو التمرّد. بكركي لا تستطيع إلا أن ترحّب وتبارك. وليد جنبلاط سيبقي ورقة هنري حلو بيده. الأخير يؤكّد لـ «السفير» «أنه مستمرّ في ترشيحه، مع العلم أن القرار سيتّخذ في اجتماع «اللقاء الديموقراطي»، مشيرا الى «أنني أؤيّد أي تقارب والوصول الى قواسم مشتركة، لكن علينا انتظار مواقف باقي المكوّنات السياسية الاخرى من هذا الترشيح».
أما «حزب الله» فيقول متابعون إنه لم يكن معنياً بالقيام بأي ضغط على عون لسحب ترشيحه بعد إعلان المبادرة الرئاسية من جانب سعد الحريري، فهل سيكون معنياً بالضغط على فرنجية الآن لسحب ترشيحه بعد إعلان تأييد جعجع لعون منعاً لـ «نعي» جبهة «8 آذار»، وتأميناً لالتزامه الأخلاقي بإيصال «الجنرال» الى الرئاسة؟ صَمَتَ «حزب الله» بعد مبادرة الحريري الرئاسية، فهل سيبقى صامتاً بعد مبادرة جعجع الرئاسية التي تفوّقت على «طقوس» الترشيحات الرسمية لرئاسة الجمهورية بعكس «الاقتراح الباريسي» غير الرسمي؟
وبالتأكيد، فإن إصرار فرنجية على الاستمرار في ترشيحه سيرفع الإحراج عن نبيه بري ووليد جنبلاط وسعد الحريري. الثلاثة في هذه الحالة يدعمون فرنجية «الماروني القوي» بوجه عون «الماروني القوي»، مانحين «الغطاء الوطني» الذي نصّت عليه وثيقة بكركي. مصادر «تيار المستقبل» تؤكّد «نحن على إصرارنا بالالتزام بحضور جلسات الانتخاب. لينزل المتنافسون الى مجلس النواب وليُحسم الأمر بالتصويت».
موقف فرنجية عمليا لم يحسم بعد. والأرجح أن التبليغ سيحصل خلال زيارة يقوم بها باسيل قريبا الى رئيس «تيار المردة». لكن ما يطلبه فرنجية من عون من رابع المستحيلات. الأخير غير قادر على إعطائه كلمة بدعم ترشيحه إذا لم يتأمّن نصاب انتخاب «الجنرال». أصلا فلسفة الدعم الرئاسي له من جانب جعجع لم تكن لتوجد لولا دعم الحريري لفرنجية. لن يكون عون بوارد الانقلاب على تفاهمه مع جعجع بعد أيام فقط من شرب أنخاب التحالف الرئاسي. أقصى السيناريوهات السوداوية التي لا تغيب عن بال المتشائمين «أن يصبح جعجع الرقم 2 لدى عون في قائمة المرشّحين للرئاسة بدلاً من فرنجية!».
جلسة 8 شباط على الأبواب. الجلسة الـ35 قد تكون «خاتمة أحزان» الفشل المتكرّر في انتخاب صاحب الفخامة، وقد تشكّل تأسيساً لمشهد رئاسي أكثر تعقيداً وغموضاً. وما لم تحدّد الكتل الكبرى موقفها الصريح من «إعلان معراب»، قد يُفرض على الرئيس نبيه بري التأجيل.
ثمّة من يشير في هذا السياق الى عامل لا يمكن تجاوزه: هناك 34 جلسة انتخاب غاب ميشال عون عنها جميعا باستثناء الجلسة الاولى، وكذلك فعل فرنجية و «حزب الله». اليوم يحمل «الجنرال» ورقة يفترض أنها تشكّل بطاقة مرور عبر «الخط العسكري» السريع الى ساحة النجمة، فهل يمكن أن «ينفّس» المشهد الرئاسي غير المسبوق في تاريخ المسيحيين بعد الطائف، فيقاطع مرّة جديدة جلسة الانتخاب لتعذّر التوافق؟ في الرابية تأكيدات من نوع «لن نحضر ليغيب الآخرون. حين يتوجّه عون الى ساحة النجمة لن يخرج إلا رئيساً منتخباً».
خلال المداولات التي رافقت الإعلان عن «وثيقة بكركي»، اعترض ممثل «التيار الوطني الحرّ» سليم جريصاتي على وضع بند في متن الاتفاق يفيد بأن الحضور أو التغيّب عن جلسات انتخاب الرئيس هو حق سياسي للنائب.
إصرار الوزير السابق يوسف سعادة على المسألة قاد لاحقاً الى إدراجها تحت عنوان «ملاحظة» في نهاية الوثيقة. هكذا عاد جريصاتي واستنجد لاحقا بـ «الملاحظة» من باب «تشريع» التغيّب العوني عن الجلسات. لكن أحداً لا يعلم إذا ما كانت الرابية ستبقي على خيارها بالتغيّب إذا أدار الجميع ظهورهم لـ «الهدية» الرئاسية المسيحية.
تردّدات «زلزال» معراب لا تزال تسمع لدى القوى الحليفة والخصمة. قاسمها المشترك قراءة تتخطى المأخذ الجوهري على عون بتسليف جعجع «ورقة العمر» التي قد تقوده الى الاجتهاد والذهاب بعيدا في كيفية إدارة الشارع المسيحي من اليوم وصاعداً.
«الفوبيا» الواضحة من التقاء الزعيمين المسيحيين، دفعت البعض الى فتح قاموس التحذير من تداعيات «الكارثة»، فالمسيحيون اليوم أمام هذا الصدام المذهبي في المنطقة ليسوا بخير، لا بل في وسط نقطة الخطر. فما الغاية من إبراز «عضلات وهمية» ومن استفزاز الشارع السنّي والشيعي؟ وإذا كان المقصود خلق ثنائية مسيحية مقابِلة للثنائية الشيعية، فالمقارنة غير منطقية. لدى الشيعة هناك تفاهم استراتيجي كامل وخلاف في التفاصيل، أما لدى عون وجعجع فالعكس هو الصحيح. أضف الى ذلك، أنه خارج الثنائية الشيعية لا تجد شيعياً من وزن سليمان فرنجية أو أمين الجميل أو سامي الجميل... وبالتأكيد لدى المسيحيين شريحة كبيرة تكاد تشكّل 25% في الطائفة قد تقلب المقاييس والمعادلات في آخر لحظة في أي استحقاق، فلماذا تجاهلها والقفز فوق باقي المكوّنات المسيحية الاخرى؟