الاعتداء على البعثات الدبلوماسية هو أسلوب تاريخي تلجأ إليه طهران عندما تتراكم أزماتها الداخلية ويصل الصراع الداخلي على السلطة إلى مستوى النزاع، أو عندما تصطدم بصلابة خصومها الخارجيين، فتحاول ابتزازهم وانتزاع تسويات تخدم المصالح الداخلية والخارجية لنظامها الحاكم. فقد افتعلت طهران التصعيد مع الرياض على خلفية إعدام نمر النمر، فأقدمت مجموعة من ميليشيات الباسيج على اقتحام السفارة السعودية في طهران والقنصلية في مشهد، وما لبثت حكومة روحاني أن تبرأت منه واتهمت المتشددين بافتعاله، ودعت إلى معاقبة المتورطين. موقف يعكس مدى الصراع بين أجنحة السلطة في إيران، عشية البدء بتنفيذ بنود الاتفاق النووي، وعلى بعد شهر من أهم انتخابات تشريعية تشهدها إيران منذ قيام الثورة، في ظل حديث جدي عن صحة المرشد والصراع على خلافته.
بعد عودة آية الله الخميني إلى طهران في فبراير (شباط) 1979، اشتد الخلاف السياسي داخل أجنحة الثورة، حيث امتعض التيار المتشدد من النفوذ الذي تتمتع به شخصيات مدنية مقربة من الخميني، تميل إلى اتباع سياسة خارجية تصالحية مع الغرب والولايات المتحدة، في مقدمتهم صادق قطب زاده وبني صدر ومهدي بازركان وإبراهيم يزدي، فوجهوا بمعارضة شديدة من التيار المتشدد، الذي انفجر غضبه بعد لقاء رئيس وزراء الثورة بازركان ووزير خارجيته يزدي مع مستشار الأمن القومي الأميركي بريجنسكي بالجزائر في يوليو (تموز) 1979، لينكشف الغطاء بعدها عن مجموعة اتصالات بين الجانبين، بدأها آخر سفير أميركي في طهران المثير للجدل ويليام سوليفان مع السيد بهشتي بعلم الخميني. وعلى أثرها، قام طلاب جامعة طهران وبمباركة المتشددين باقتحام السفارة الأميركية في طهران في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1979 بهدف وضع كل الأطراف أمام أمر واقع جديد لا يمكن تجاوزه، تحدد من خلاله السياسات الداخلية والعلاقات مع الخارج، وهو ما مهد للمتشددين استبعاد منافسيهم المعتدلين عن السلطة. والمفارقة أنه على الرغم من اعتقال الدبلوماسيين الأميركيين، فإن العلاقة بين إيران وإدارة الرئيس كارتر لم تنقطع، بل استمرت واشنطن بتزويد إيران بمعدات عسكرية وصناعية، كما لم تفلح محاولات بريجنسكي في إتمام صفقة إطلاق الرهائن عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية.
إثر هزيمة إيران القاجارية أمام روسيا القيصرية سنة 1828 وتوقيعها معاهدة «تركمان جاي» التي تخلت بموجبها عن أقاليم في شمال القوقاز لصالح روسيا، والتزمت بدفع 20 مليون روبل كتعويضات مالية للإمبراطورية الروسية، قامت بطرسبرغ بتعيين الأديب والشاعر الروسي ألكسندر غريبويدوف سفيًرا في طهران من أجل الإشراف على تنفيذ بنود المعاهدة، حينها كانت السلطة القاجارية المفلسة ماليًا، في غمرة نزاع على السلطة، بين الحاكم الشكلي في طهران فاتح علي شاه وخصمه ولي العهد الأمير عباس ميرزا المقيم في تبريز، حيث عمد مقربون من الشاه إلى تحريض جماعات متعصبة «قومية ودينية» في طهران ضد السفارة الروسية، واتهمت غريبويدوف بالتهتك الأخلاقي بعد أن هربت سيدتان وغلام أرميني من بلاط الشاه، ولجأوا إلى السفارة الروسية طلبًا للمساعدة في العودة إلى أرمينيا، عندها أعلنت بعض مساجد طهران الجهاد عليه، فقامت الآلاف من الغوغاء باقتحام السفارة، وقتل السفير وحراسه القوزاق وجميع العاملين في البعثة الروسية، ومثل بجثثهم في فبراير 1829. وعلى أثر هذه الحادثة، أرسل الشاه حفيده لمقابلة القيصر نيكولاي الأول في بطرسبرغ وحمله قطعة من الماس نادرة كهدية، واستطاع إقناعه بتأجيل دفع التعويضات 5 سنوات، محذًرا الروس من استغلال السفارة البريطانية لهذا التوتر لزيادة نفوذها في إيران.
استغلت الممالك الأوروبية طموحات إيران الصفوية في مواجهة العثمانيين، واستخدمت بريطانيا العظمى السلطة القاجارية بوجه روسيا القيصرية، وقام الحلف الأطلسي بالاستعانة بحكم بهلوي في صراعه الجيو استراتيجي مع السوفيات، وحاول بريجنسكي استقطاب النظام الإسلامي في مواجهة المد الشيوعي، وحاليًا تحاول إيران أن تكون أداة غربية أميركية، ضد مصالح الأغلبية العربية والإسلامية، لكنها اصطدمت بالجدار السعودي الخليجي، الرافض لابتزازاتها، وعليه بات من الممكن اعتبار أن التاريخ لم يعد يكرر نفسه في إيران بقدر ما يراوح مكانه