لم يعد سمير جعجع سياسياً إشكالياً يبذل جهداً متواصلاً للتحرر من أعباء الحرب الاهلية وموروثاتها المشينة، ويسعى بدأب منذ العام 2005 الى تقديم أوراق اعتماده في نادي النخبة اللبنانية. ها هو بالأمس يتسلم أوراق العضوية الكاملة، ويتحول الى مرجع معترف به في الحياة السياسية، والى قطب مركزي من أقطابها، المسيحيين والموارنة تحديداً، يصنع الرؤساء والوزراء.. ويصبح مرشحاً جدياً جداً جداً لرئاسة الجمهورية، بعد مغادرة الرئيس ميشال عون قصر بعبدا.
قد يبدو مشهد معراب بالامس مجرد إستكمال طبيعي لصراع تاريخي قديم بين إقطاع زغرتا وبين أرياف بشري، أو مجرد تواطوء ضمني بين زعيمين سياسيين مستجدين في مواجهة التقليد الماروني الموروث منذ عشرات بل ربما مئات السنين. لكن ثمة نهضة مسيحية-مارونية لا شك فيها، في مواجهة ما يبدو انه إستخفاف او حتى تلاعب إسلامي بالمسيحيين أنتجه سوء التطبيق المتمادي لإتفاق الطائف. ترشيح أقوى الموارنة للرئاسة لا يمكن ان يختزل الى مجرد إنتقام من آل فرنجية، هو بمعنى ما يعيد او يطمح الى استعادة التوازن المفقود مع المسلمين، وينبيء بان هناك مشروعاً، (او طموحاً)، مارونياً جديداً للبنان، يشبه المشروع التأسيسي الاول، وان كان لا يوازيه، نظرا للاختلاف الجذري في الظروف التاريخية بين بدايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي. لم يقدم جعجع للمسيحيين وللبنانيين بالامس مرشحاً قوياً للرئاسة فقط، بل هو “تجرأ” على تلاوة ما وصفه صراحة ب”البرنامج الرئاسي”، الذي يلزم عون أولاً ، كما يعبر تالياً عما يشبه الاجماع المسيحي الماروني. وهو، في الشكل، يجعل معراب مركزاً لكتابة خطاب القسم الرئاسي، وفي الجوهر، يعيد التيار العوني الى سيرته الاولى كفريق سياسي بنى مجده، وراكم غالبيته الشعبية، على مقارعة النفوذ السوري وملحقاته اللبنانية.
الآن ثبت بما لا يدع مجالاً للشك ان التيار العوني كان مستعداً وجاهزاً لمثل هذه العودة، او المراجعة إذا جاز التعبير، لكنه لم يجد عند تيار “المستقبل” تحديداً الفطنة المطلوبة التي تواكبه وتتوج طموحه بالوصول الى قصر بعبدا. الآن ايضا، ثبت بما لا يدع مجالاً للشك ان جعجع كان الأقدر على مواكبة تلك العودة، وعلى إسترداد المبادرة الرئاسية التي كانت ضائعة في الخارج، وتحديداً في الرياض، وفي غيرها من العواصم العربية والاجنبية التي تورطت في ترشيح النائب سليمان فرنجية.
لم يكن الامر يتطلب سوى القليل من الحنكة، “ونكران الذات”، حسب تعبير جعجع، لكي تصبح معركة الرئاسة شأناً داخلياً، مسيحياً-مارونياً، ( لمَ لا ؟)، طالما ان المسلمين ماضون في فتنتهم المذهبية حتى النهاية التي يدفع المسيحيون ثمنها أكثر من السنة والشيعة على حد سواء، لانهم كانوا مدعوين من قبل الفريقين الى تقديم تضحيات ليس أقلها الفراغ والغياب التام، والتخلي عن حصصهم الشرعية في السلطة وأدوارهم الرئيسية في السياسة.
خطاب القسم الرئاسي الذي كتبه جعجع وقرأه، وأنصت إليه عون وباركه، هو ككل خطاب قسم، ليس أكثر من إعلان نوايا رئاسية، وهو ملزم حتى الان لفريقيه، ولن يكون بمقدور الكنيسة المارونية ان تحجب بركتها عنه، أو أن تسمح بتمرد مسيحي جدي عليه. لكن إلزام المسلمين به، السنة والشيعة على حد سواء، لن يكون بالسهولة المفترضة. في الشكل كما النص هناك الكثير مما يمكن ان يثير حفيظة الجانبين، وان كان الحرص السني والشيعي على الشريك المسيحي قد زاد أخيراً مع احتدام الصراع المذهبي.
لكن أي إعتراض إسلامي، سنياً كان أم شيعياً، على إتفاق معراب، سيكون إما بقرار الخارج وتعليماته، او بوحي من تراث الحرب الاهلية..الذي يمكن ان يدفع المسيحيين هذه المرة الى البحث الجدي أكثر من أي وقت مضى في الخيار الفيدرالي، المقيم في العراق والمرتقب في سوريا، لتفادي خطر الإندثار تحت وطأة صراع تورط به المسيحيون صدفة، وها هي الفرصة تلوح لخروجهم منه بأقل قدر ممكن من الخسائر والأضرار.