قبل أيام، بعث رئيس مجلس النواب نبيه برّي، وفق معلومات من مصادر أميركية، رسالة الى الرئيس الأميركي باراك أوباما يوضح له فيها أنّ قرار الكونغرس الأميركي الأخير المتعلّق بمطاردة أموال لبنانيّين تحت شبهة علاقتهم بـ»حزب الله»، ستضرّ بالاقتصاد اللبناني.من الأفكار الرئيسة التي حمَلتها رسالة برّي، وفق المصادر عينها، هي لفته أوباما الى أنّ قانون الكونغرس الاخير الذي استتبع الإجراءات الأميركية داخل المصارف حول العالم، تظهر أنّ الجهة المستهدَفة بنحوٍ رئيس هي رؤوس الأموال الشيعية، وهو أمر نبَه برّي الى أنّه يتنافى مع تقاليد الأنظمة الاميركية غير الفئوية ولا ينسجم مع تاريخ صداقة الشعبين الاميركي واللبناني المشاركين في هذه المرحلة بالعداء للارهاب.
وحضّ برّي أوباما في رسالته على المبادرة لوقف مسار تنفيذ هذه القرارات الاميركية الاخيرة التي تتّسم بأنها تستهدف رؤوس أموال لبنانيين تحت شبهة علاقتها بجهات معيّنة.
ولا تتوقّع هذه المصادر الاميركية أن يكون هناك نتيجة عملية لهذه الرسالة، كون الإجراءات المالية الاميركية التي اتُخذت لتجميد أصول أيّ شخص يُشتبه بعلاقته مع «حزب الله»، وذلك في كلِّ مصارف العالم ومن ضمنها المصارف اللبنانية، أصبح لها صفة القانون الاميركي الملزم، نتيجة صدوره عن الكونغرس الاميركي، وبالتالي فإنّ إلغاءه أو تجميد العمل فيه، يحتاج الى تشريع مضاد له عبر الكونغرس المتشدّد في إبقائه نافذاً، وبالتالي فإنّ قرار إلغائه ليس في يد أوباما إلّا في حال استخدم الأخير صلاحياته الاستثنائية لتجميده، وهو أمر مستبعَد.
لكنّ هذه المصادر تلفت في الوقت ذاته الى أنّ رسالة برّي يمكن أن تثير لدى بيئات مهتمة بلبنان داخل الادارة الاميركية، ثلاثة استنتاجات عن إمكان أن يتسبّب قانون الكونغرس بثلاثة أخطار لا تريدها إدارة أوباما؛ الأوّل أنّه سيضرّ بالاقتصاد اللبناني الذي يُعتبر القطاع المصرفي عموده الفقري، وذلك من باب أنّ تطبيقاته ستؤدي على مدى متوسط الى هروب رؤوس الأموال من المصارف اللبنانية نظراً لخوف أصحابها من أنّ أموالهم فيها اصبحت مكشوفة على إمكانية تجميدها نتيجة وشاية أو اشتباه بعلاقة ما مع «حزب الله»، وذلك في ظرفٍ لا توجد أيّ مرجعية قانونية تمكّن أصحاب رؤوس الاموال من الدفاع عن أنفسهم في وجه الاجراءات المصرفية المتخذة بحقّ رساميلهم.
الخطر الثاني، هو التحذير من أنّ هزّ القطاع المصرفي نتيجة غياب وجود سقف قضائي يَحمي ودائع عملائه ضدّ مظالم تلحق بهم نتيجة تطبيقات قانون الكونغرس عليهم، سيقود إلى هزّ الامن الاجتماعي والاقتصادي والمعيشي في لبنان الوثيق الصِّلة بالاستقرار العام الهش أصلاً.
ويُمهّد برّي عبر طرح هذه النقطة الآنفة، وفق المصادر عينها، الى لفت نظر إدارة اوباما إلى وجود نتائج لهذا القانون على استقرار لبنان. وهدفه من ذلك الحصول على تأييد دولي لأنّ يسنّ مجلس النواب اللبناني قانوناً لا يُلغي العمل بالقانون الاميركي ولكن يوجد آلية تُمكّن المتضررين منه من مراجعة القضاء اللبناني لإنصافهم فيما لو كانت الشّبهة ضدهم غير صحيحة.
النتيجة الثالثة تستبطن رفع شكوى شيعية عامة إلى الإدارة الاميركية من أنّ تطبيقات قانون الكونغرس تُعطي انطباعاً للشيعة في لبنان والمنطقة بأنهم مستهدفون بحرب «ناعمة اميركية» لإضعاف مكانتهم المالية والاجتماعية في العالم العربي.
ولم يعد خافياً أنّ الاجراءات المالية الاميركية ضدّ «حزب الله»، بصرف النظر عن أحقيّتها من عدمها، أصبحت تُشكّل مصدر قلق جدّياً لأصحاب رؤوس المال الشيعية اللبنانيين خصوصاً، والعرب عموماً، وذلك بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية.
والسؤال المطروح داخل كواليسهم، هو عمّا إذا كانت مرحلة ما بعد تحرير إيران من العقوبات الاقتصادية والمالية الأمميّة، ستعقبها مرحلة نقل هذه العقوبات لتطبيقها على «اجتماع الاقتصاد الشيعي» في الدول العربية، وذلك تحت عنوان تجفيف أموال «حزب الله» ومنع إفادة إيران من طفرتها المالية المرتقبة لمصلحة تمويل نفوذها السياسي في المنطقة العربية.
وبحسب معلومات خاصة بـ«الجمهورية»، فإنّ تطبيقات قانون الكونغرس الاميركي لن تصيب «حزب الله» بأضرار كبيرة، نظراً لأنّ نسبة عالية جداً من أموال الحزب لا تمرّ في المصارف اللبنانية، ونظراً أيضاً لكون الحزب لا يتلقّى الدعم المالي من الدولة الإيرانيّة الملزمة بتنفيذ أيّ التزامات بوقف تمويل الحزب قد تكون قدّمتها إلى واشنطن بموجب توقيع اتفاقها النووي الأممي، بل يتلقّاها من «أموال الخمس» التي تصل إلى قمّ والمرشد الخامنئي، من الشيعة حول العالم.
ومفهوم «الخمس» حسب الفقه الديني الشيعي يوجب على الأغنياء الشيعة دفع نسبة الخمس من أرباح رؤوس أموالهم لمراجعهم الدينيّة الذين يوزّعونها بدورهم على وكلائهم عبر العالم. وتقدّر محاصيل الخمس التي تصل لمراجع قمّ وحدهم، بمئات ملايين الدولارات في كلّ عام.
وهذه أموال لا سلطة للدولة الإيرانيّة عليها، بل يعود القرار بطريقة توزيعها لآيات الله ولمرشد الثورة، بمعنى آخر آلية توزيعها لا تمرّ عبر مؤسسات الدولة اللبنانية بل مؤسسات رجال الدين الإيرانيين المستقلة.
ويُستفاد ممّا تقدّم حول المصادر الحقيقية التي تقدم التمويل الخارجي لـ «حزب الله»، أنّ واشنطن ستجد نفسها مضطرة كلما ذهبت بعيداً في تطبيق قانون تجفيف مصادره المالية، للتورّط في الاشتباك مع مفهوم شيعي ديني عقائدي، لديه شبكة امتدادات واسعة داخل الاجتماع الشيعي في العالم كله، وهو شكل مع تقادم الزمن عليه أسلوب حياة اجتماعياً واقتصادياً ودينياً لدى الاجتماع الشيعي العالمي. وينظم علاقة إفادة طبقاته الفقيرة من الطبقات الغنية عبر وساطة المراجع الدينية، كما أنه يشكل نظاماً مالياً لدى الشيعة مستقلاً عن النظام المالي الرسمي.
وعلى هذا، فإنّ قرار الكونغرس لتجفيف مصادر تمويل الحزب الخارجية التي تأتي بجزء كبير منها من أموال الخمس المتجمّعة ليس فقط في قمّ، بل في غير بلد عربي وأجنبي، لن تكون نتائجه سياسية مجرّدة بل ثمّة خطورة لأن يقود الى صدام مع مفهوم ديني شيعي واجتماعي له بعد عملي مالي، ما يجعل البعد الديني لهذا النزاع أقوى من بعده السياسي.
هناك مئات الآلاف من الأغنياء الشيعة حول العالم المنتمين إلى طبقات وسطى وثريّة يحوّلون خمس أرباحها سنوياً الى مراجع دينية شيعية، وهم يحظون برتبة انهم «مقلدون» (أيْ لديهم اتباع شيعة يسألونهم الفتوى في أمور دينهم وحياتهم)، وهم يقيمون في العراق وإيران خصوصاً وحتى في لبنان، وهؤلاء يجبون سنوياً مئات ملايين الدولارات التي تَردهم من أتباعهم حول العالم، ضمن نطاق تطبيق مفهوم واجب «الخمس».
وتوزّع هذه المراجع هذه الاموال على وكلائها في أقطار العالم التي يعيش فيها مواطنون من الطائفة الشيعية. والسؤال هو كيف ستتعامل أميركا مع هذه الأموال؟ هل ستعتبرها إرهابية ويجدر حظرها أم ستعتبرها أموالاً تصل بطريقة ملتوية إلى «حزب الله»، ما يوجب وضع اليد عليها؟
في اختصار، هناك خشية من أنّ قرار الكونغرس قد يُدشّن لحرب دينية شيعية أميركية على الجبهة المالية، الأمر الذي يستدعي ضرورة تعديل تنفيذه وذلك عن طريق إيجاد مرجعية قضائية وطنية للبتّ في قرارات تجميد الأموال من المصارف وذلك في كلّ دولة على حدة.
وبالنسبة إلى لبنان يُعتبر إجراء هذا التعديل أمراً حيوياً لمنع أن تؤثر تطبيقات قانون الكونغرس سلباً في اقتصاد لبنان واستقراره الاجتماعي والامني، وبصورة أعمّ لمنع تحوّله على مستوى العالم الى اشتباك اميركي مع عقيدة «الخمس» الدينية عند الشيعة، وحصره بدل ذلك بإطاره السياسي.
يبقى من المفيد القول إنّه خلال العقد الاخير، شهدت رؤوس الاموال الشيعية اللبنانية الموظفة في مشاريع استثمارية، انتقالاً من افريقيا والخليج الى العراق ولبنان، ولاحقاً تتهيّأ للانتقال الى ايران.
وتقول معطيات خاصة أنّ نسبة ٣٥ في المئة من رؤوس الاموال الشيعية الهاربة من افريقيا اتّحدت مع رؤوس اموال شيعية مقيمة في لبنان، وتوجّهت للاستثمار في العراق ضمن قطاع المشاريع السياحية الدينية (كربلاء والنجف) خصوصاً.
ونسبة مماثلة استثمرت في لبنان عبر عمليات البناء والعقارات ولكن في الآونة الاخيرة بدأت تُخفف من استثماراتها في البلد وتستعدّ للالتحاق بالسوق الايراني.
وهناك نسبة من رؤوس الاموال الشيعية المتبقية توجّهت للاستثمار في الضاحية الجنوبية المعتبرة سوقاً شعبية كبيرة، وهي الآن في حال انكماش نظراً للتفجيرات التي استهدفت الضاحية في السنوات الاخيرة وللبلبلة التي تحيط بمستقبل الحرب الناعمة المالية على «حزب الله». وقليل من رؤوس الأموال الشيعية ذهبت الى أربيل وأيضاً مصر.
وبحسب المعطيات عينها، فإنّ بعض اصحاب رؤوس الاموال الشيعة اتصل قبل أشهر بالأميركيين لاطلاع واشنطن على خطورة استشعارها بأنّ هناك اتجاهاً لمطاردة اموال الشيعة اللبنانيين والعرب تحت حجّة علاقتهم بـ«حزب الله».
وبيّنوا لمحادثهم الاميركي أنّ مصادر تمويل الحزب ليست تجارية أو مدنية بل دينية بنسبتها العالية (الخمس)، وعليه يجب الحذر من توجيه ضربة إلى الاجتماع الاقتصادي الشيعي في لبنان والمنطقة، لأنّ ذلك سيوجّه رسالة خاطئة للشيعة العرب الذين سيفهمون الامر على أنه حرب لإرجاعهم الى قمقم الفقر والتهميش، ما سيعزّز الشعور الديني لديهم في اتجاه التطرّف.