ذكّرتنا فضيحةُ إخلاء سبيل ميشال سماحة قبل أيام بأحوال العدالة وبصلاحيّات المحاكم العسكرية في لبنان.
فالرجل الذي ضُبط متلبّساً بنقل عبوات ناسفة في سيّارته من سوريا الى الأراضي اللبنانية لتفجيرها واستهداف مواطنين مدنيّين واغتيال سياسيّين ورجال دين، والذي اعترف بالأمر وربطه بتوجيهات من ضابط المخابرات السوري علي مملوك ورئيس نظامه بشار الأسد، أٌخلِي سبيله بكفالة مالية. وكأن جريمته المحقّقة (نقل العبوات وتسليمها للـ"مُخبِر" بهدف تفجيرها) وجرائمه المُزمع تنفيذها (القتل العشوائي والموضعي عمداً) مجرّد جُنَحٍ يكفي أن يدفع مبلغاً من المال بعد انقضاء ثلاث سنوات وأربعة أشهر على توقيفه بسببها لكي يُفرَج عنه ويُحاكَم طليقاً بشأنها.
تفتح قضية الإفراج عن سماحة النقاشَ مرّة جديدة حول القانون والعدالة واستقلالية القضاء في بلد انتهكته بعد انتهاء حربه الأهلية المخابراتُ السورية وأدواتها اللبنانية، وانتهكته كذلك رداءة سياسيّيه وزبائنيّتهم التي انعكست على الأجسام القضائية وعلى معظم المؤسّسات الوطنية.
وتفتح قضية الإفراج عنه أيضاً البحث في مسألة ازدواجية المعايير حتى في باب التُهم الأمنية، وتفرض المقارنات مع حالاتٍ كثيرة لمُتّهمين قابعين داخل السجون اللبنانية منذ سنوات ينتظرون المحاكمة، لا سيّما داخل سجن رومية الشهير الذي شاهدنا بعض سجّانيه في فيديو انتشر منذ فترة يمارسون التعذيب الوحشي على عدد منهم. وهؤلاء، وجلّهم من إسلاميّي طرابلس والشمال، لم يُدانوا بعد، والتُهم الموجّهة الى أكثريّتهم أقلّ بكثير ممّا اعترف بفعله ميشال سماحة. ويصعب ألّا يتطرّف من بينهم ومن بين ذويهم من لم يكن متطرّفاً أصلاً بعد كل الظلم والتوحشّ الذي تعرّضوا له في السنوات الأخيرة.
على أن للأمر جانب آخر يُضاف الى ما يرتبط بقضيّة العدالة المُغيّبة في لبنان، أو ازدواجية المعايير تجاه "السجناء الأمنيّين" وتبعاتها. جانبٌ يضعُنا في مواجهة وقائع على صلةٍ بأدوار المحاكم العسكرية واختصاصاتها وكفاءة العاملين فيها. فالمحاكم هذه يُفترض أن تكون مخصّصة للعسكريّين حصراً، وهي محاكم استثنائية ترتبط بجرائم يرتكبونها أو تُرتكب ضدّهم وهم في الخدمة. ولا علاقة لها بالتالي بأي قضيّة تخرج عن النطاق المذكور.
وما الاستمرار في اعتماد المحاكم العسكرية بقُضاتِها العسكريين في قضايا ينبغي أن تكون من اختصاص محاكم مدنية إلّا إمعان في انتهاك فلسفة القوانين المدنية اللبنانية، وتدخّل سياسي – عسكري في شؤون العدالة وآليّات عملها وكأننا في بلد يحكمه العسكر أو يُمعنُ في إفساده "قانونُ طوارئ" غير معلن.
وإذا كان بعض النافذين داخل المحاكم العسكرية والمستفيدين منها يحاولون على الدوام توسيع صلاحيّاتها والزجّ بها في مواجهات "قضائية" لترهيب خصومهم، فإن على الحريصين على ما تبقّى من احترام للقوانين وللقضاء والعدالة (من جمعيّات وهيئات حقوقية وأكاديمية) أن يضغطوا باتّجاه طيّ صفحة "محكمة التمييز العسكرية" وسائر المحاكم التي تُقحم العسكر في الشؤون المدنية. والتوقيت الآن، بعد فضيحة سماحة المدويّة، قد يكون مؤاتيا.ً..
المصدر: ناو