إيران من دون عقوبات. الطريق إلى رفع العقوبات الذي بدأ في تشرين الثاني العام 2013 في جنيف، مع توقيع الاتفاق المرحلي لتسوية الملف النووي الإيراني، حط رحاله في فيينا.
ستة أشهر بعد التوقيع في فيينا على اتفاق من 158 صفحة، من القيود والتعهدات الإيرانية والأميركية؛ لم يخرج المسار الذي رسمه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ونظيره الأميركي جون كيري عن الخطوط التي وُضعت له في فيينا، وجرى احترام المواعيد كافة، في أوقاتها، من تصويت أكثرية كافية في الكونغرس الأميركي في أيلول على الاتفاق لكي يمر من دون مواجهة دستورية مع الرئيس باراك أوباما، إلى تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي ألغت 12 قراراً متتاليًا بحق إيران، وأصدرت من دون أدنى تأخير قبل أسبوعين، تقريرها الأخير الذي يبرئ طهران من أي نشاط نووي عسكري، إذ لم يجد المفتشون في جولتهم الأخيرة، كما يقول تقريرهم، أي أثر له، بعد أبحاث في هذا الميدان في العامَين 2009 و2013، توقفت في ما بعد، كي تنفتح الطريق ويعود القطار مجددا إلى محطته النمساوية الأخيرة، هذه المرة مفتتحاً: مراحل من عقد إلى ربع قرن من الرقابة على البرنامج النووي الإيراني السلمي، وتقليصاً لبعض ميادينه، خصوصاً في نسب التخصيب وعدد آلاته، وإبطاء لبرنامج البلوتونيوم، والاحتفاظ بالكتلة الوازنة من البرنامج ومنشآته، بالتوازي طبعاً مع الاعتراف بحق إيران بتخصيب اليورانيوم، واستعادة ما يقارب 150 مليار دولار من أرصدتها المجمدة في المصارف الغربية، وتبوء دور القوة الإقليمية، التي يمنحها إياه الموقع التاريخي للهضبة الإيرانية، والخيارات الجيواستراتيجية بالتمسك بالبرنامج النووي مهما كلف ذلك من تضحيات.
وخلال الساعات الأولى لإيران النووية السلمية من دون عقوبات، ظهرت نتائج أولى سريعة على احتمالات عودة النفط الإيراني إلى الأسواق، واستعادة الأرصدة المجمدة التي ستقارب هذا العام 50 مليار دولار، ما يعادل عائدات عام كامل من الإنتاج النفطي والغازي الإيراني تقريباً، واستغناء طهران عن الشبكات المصرفية الخليجية لتعاملاتها التجارية لا سيما دبي، التي كانت تجني 18 في المئة عن العمليات المصرفية الإيرانية، والتي بلغت العام الماضي ستة مليارات دولار.
وتراجعت البورصات الخليجية إلى مستويات لم تشهدها منذ العام 2004، وخسرت القطرية أربعة في المئة، وتراجعت السعودية إلى 5520 نقطة، وهبطت الكويتية إلى خمسة آلاف نقطة.
وتبدو العودة الإيرانية إلى سوق النفط محدودة النتائج بالنسبة لطهران، إذ إن حرب الأسعار التي تقودها السعودية بإغراق الأسواق بالنفط، لتحطيم اقتصاد روسيا وإيران، وهبوط أسعار النفط إلى 29 دولاراً، يعملان هما أيضا على احتواء مفاعيل تحرير الأرصدة الإيرانية، والاستعاضة عن العقوبات الدولية بحرب نفطية، قد تؤدي إلى تآكل الأرصدة التي تستعيدها طهران، وتقليص قدرتها على الاستثمار، وإعادة تأهيل القطاع النفطي، بفعل انهيار أسعار النفط، خصوصا أن النفط الإيراني الثقيل، يباع في الأسواق بـ 20 دولاراً، وتبلغ كلفة استخراجه 12 دولارا، ما يحد نسبيا من الآثار الإيجابية لعودة تلك الأرصدة.
وتنعقد رهانات كثيرة على ما بعد رفع العقوبات الاقتصادية، على تحول تفاهم فيينا النووي إلى قاعدة لتفاهم سياسي أميركي - إيراني، تمتد مسمياته من التنسيق إلى الشراكة في حل أزمات المنطقة، كأحد نتائج الصعود الإيراني في المنطقة أو الاعتراف الأميركي بالقوة الإقليمية الإيرانية، ومنحها هذا الدور. وكان الرئيس الأميركي باراك أوباما أول من أعاد الأمور إلى نصابها، من دون تفصيل، عندما وضع التفاهم المستجد في «إطار المصالح الأميركية التي تكون في حال أفضل عندما نتحدث إلى إيران»، ولكن لا تزال «الخلافات كثيرة، لا سيما بشأن إسرائيل».
ولا يبدو التنسيق الأميركي - الإيراني مرشحاً للتطور بسرعة على الأقل، إذ لم تتقدم العلاقات بين الأميركيين والإيرانيين لتسهيل التعاون في ملفات المنطقة وحيثما تقاطعت المصالح، في سوريا ولبنان والعراق واليمن وأفغانستان. وخابت توقعات كثيرة أن تنفتح أزمات هذه الدول على انفراجات، أو مساومات على سوريا مثلاً، كما توقع خصوم طهران، فور التوقيع على التفاهم النووي في فيينا، ومن دون انتظار حتى مرحلة رفع العقوبات التي كانت تحصيلاً حاصلاً بنظر الأميركيين وعلى ضوء الضمانات التي قدمها أوباما؛ إذ لم تطرح الملفات الإقليمية على أي طاولة مفاوضات فرعية أميركية - إيرانية خلال المسار التفاوضي النووي. ويقول مسؤول فرنسي تابع المفاوضات إن أياً من هذه الملفات لم يجرِ النقاش فيها ولم تشهد أي مساومات مع الإيرانيين. كما لم تشهد المنطقة، ولا ملفاتها أي ديناميكيات مبعثها التغيير في الموقف الإيراني، بقدر ما كان دافعها الحقيقي التغيير في الموقف الأميركي، وانتقاله حتى في الأسابيع الأخيرة إلى عرض الوساطة بين إيران والسعودية كما تحدث كيري، بعد إعدام الرياض الشيخ نمر باقر النمر، وهو دور وسطي قد يتبلور أكثر فأكثر، ويستجيب أكثر لاتجاهات الإدارة الأميركية ما بعد رفع العقوبات، لتأمين مصالحها في المنطقة.
وقد عبرت عن ذلك مسارعة أوباما إلى رفع العقوبات عن إيران في قطاع الطيران المدني، وهو قرار لا صلة له بالملف النووي، لوضع الشركات الأميركية في موقع أفضل في مواجهة الأوروبيين، من اجل انتزاع صفقة بعشرة مليارات دولار لقاء 140 طائرة تحتاجها طهران لتجديد أسطولها الجوي المدني، وهو انتقال أميركي يتم أيضا على ضوء تفاقم أزمة السعودية «رجل الخليج المريض»، وتورطها في الحرب على الشعب اليمني، ودورها في تغذية الإرهاب، والخلافات المستعرة داخل العائلة المالكة، والتشكيك الأميركي الجديد بالاقتصاد السعودي، والحاجة المتزايدة إلى لجم اندفاعها نحو المزيد من التصعيد في المنطقة، وهو ما يتطلب إدارة أميركية أكبر للسعودية، وضبط النزاعات، فيما تتحول إيران، ما بعد الاتفاق، إلى خصم مسؤول على الأقل.
وأظهر الإيرانيون قدرة على الحوار، وعلى اتخاذ قرارات بناء على مصالحهم على المدى الطويل، من خلال التفاهم النووي، ومن خلال أزمة البحارة التي انتهت بسرعة، أو عملية تبادل السجناء.
والأرجح أن المسارات المفتوحة بين الأميركيين والإيرانيين لم تنتظر أصلاً التفاهم النووي ولا رفع العقوبات، وقد فرضها تقاطع المصالح الذي يقوم الطرفان بإدارته في سوريا والعراق واليمن ولبنان وأفغانستان، وأولوية مواجهة تنظيم «داعش» أو احتوائه على الأقل أميركيا. ففي الملف السوري لا يمكن الحديث عن تنسيق أو مساومات إيرانية - أميركية ولا توقعها، إذ إن القرار في الساحة السورية تراجع بشكل كبير لمصلحة الانخراط الروسي الكبير في الحرب على الإرهاب، كما أن الخلاف الإيراني - الأميركي جوهري وواسع، ولا يمكن جسره، مع تمسك طهران ببقاء الرئيس السوري بشار الأسد في كل معادلات التسوية، فيما يعمل الأميركيون على إبعاده.
وفي العراق تعمل معادلة التنافس على إعادة صوغ التوازنات بين الإيرانيين والأميركيين، حيث تفضل واشنطن الحرب على «داعش» مع إقصاء «الحشد الشعبي» عنها، كما جرى في الرمادي، وتعميمها على معركة الموصل المقبلة، وتشجيع تكوين كتلة سنية وازنة، لإعادة صياغة شراكة سنية - شيعية ، فيما تشاركها طهران النفوذ داخل حكومة حيدر العبادي. وجلي أن أي تنسيق أميركي - إيراني واسع في العراق قد ينعكس سلبا، من جهة أولى على دور «الحشد الشعبي»، ومن جهة ثانية على المزاج السني واحتمال تشجيع بعض أجنحتهم على التقارب مع «داعش».
ويبدو الرهان الأميركي على التفاهم داخليا أكثر منه تطويرا لأي تحالف أو شراكة مع إيران. إن توقيت إطلاق التفاوض بوصول الرئيس حسن روحاني إلى الرئاسة، وانتصار الجناح الإصلاحي، يشيران إلى أن الرهان الأميركي على تعزيز الانقسام الداخلي هو أحد أسباب رفع العقوبات. فالاتفاق الذي يعد إنجازا لروحاني سيطلق يديه لمواصلة التطبيع مع الولايات المتحدة، ومواجهة الدولة الإيرانية العميقة التي لم يتوقف عن انتقاد مؤسساتها، وتضخم دورها، لا سيما الحرس الثوري. وقد يكون أحد مواعيد هذا الرهان الأهم هو الانتخابات التشريعية في شباط المقبل، التي ستحدد ما إذا كان تفاهم فيينا، والانفتاح على إيران، ورفع العقوبات هي مراجعة أميركية كاملة لسياسة الحصار وإعادة تموضع، أو محاولة أخيرة لإسقاط النظام الإيراني من الداخل.
السفير : رفع العقوبات يثير هلعاً خليجياً.. وتساؤلات بشأن التفاهمات الإقليمية أميركا وإيران: «سلام نووي».. أم شكل جديد للصراع؟
السفير : رفع العقوبات يثير هلعاً خليجياً.. وتساؤلات بشأن...لبنان الجديد
NewLebanon
|
عدد القراء:
514
مقالات ذات صلة
الجمهورية : السلطة تحاول التقاط أنفاسها... والموازنة تفقدها...
الاخبار : السفير الروسي: الأميركيّون يهيّئون لفوضى في...
اللواء : باسيل يتوعَّد السياسيِّين.. ورعد...
الجمهورية : مجلس الوزراء للموازنة اليوم وللتعيينات غداً.....
الاخبار : الحريري بدأ جولة...
اللواء : هل يستجيب عون لطلب تأجيل جلسة المادة...
ارسل تعليقك على هذا المقال
إن المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس بـالضرورة سياسة الموقع
© 2018 All Rights Reserved |
Powered & Designed By Asmar Pro