أصدرت الشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان قبل عدة أشهر تقريراً حول وضع القضاء في لبنان. ويهدف هذا التقرير الذي أعده المحاميان مايا وهيب منصور وكارلوس يوسف داوود إلى تقديم وصف دقيق للوضع الراهن في لبنان في ما يتصل باستقلالية القضاء وحياده.
ويركّز التقرير على أوجه الضعف في النظام القضائي مع شرح أسبابها وجذورها، وتبيان الانعكاسات التي تلحق بالمتقاضين من خلال إيراد أمثلة ملموسة. كما يشمل التقرير سلسلة من التوصيات المفصّلة بشأن التعديلات الضرورية، خاصة على الصعيد الدستوري والتشريعي والإداري، لبلوغ مستوى من الاستقلالية يراعي المعايير الدولية.
ونورد في ما يلي ملخصاً عن التقرير وفيه وصف موجز للإطار المعياري الذي تخضع له السلطة القضائية وتتطوّر من خلاله. لقد انضمّ لبنان أو صادق على عدد من المعاهدات والاتفاقيات والإعلانات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي تضمن الحق في محاكمة عادلة أمام محكمة مستقلة ونزيهة.
تدخل الأحكام والقواعد المضمّنة في هذه النصوص الملزمة على الفور حيّز التنفيذ في القانون الداخلي وتتقدّم على قواعد التشريع الداخلي ويمكن تطبيقها بالتالي من قبل المحاكم.
كما أن لبنان قد اعتمد عدداً من المواثيق الدولية غير الملزمة المنبثقة بمعظمها عن الأمم المتحدة، فضلاً عن بعض الجمعيات والمنظمات الدولية الأخرى. نظراً إلى النقص في تدريب القضاة على مضمون وسبل تطبيق المعايير الدولية المتصلة بحقوق الإنسان، يواجه القضاة صعوبات جمّة لدى محاولتهم اللجوء إلى القانون الدولي في أحكامهم. بالتالي، فتأثير هذه الصكوك الدولية، التي صادق لبنان عليها، محدود للغاية على المستوى العملي.
في ما يتصل بالقانون الداخلي، يلحظ الدستور اللبناني، كما العديد من نصوص القانون الوضعي ذات القيمة التشريعية، أحكاماً تتعلّق باستقلالية السلطة القضائية وحيادها. تنظيم القضاء اللبناني - مشكلة المحاكم الدينية والعسكرية لا تواجه المحاكم العادية صعوبة في المبدأ من حيث ضمان استقلالية القضاء وحياده؛ غير أن المحاكم الاستثنائية، بما في ذلك الدينية وخاصة العسكرية، تشكّل انتهاكات خطيرة للحريات وحقوق الإنسان.
على الصعيد العملي، إنّ عمل المحاكم الدينية هو سيئ بالنسبة إلى المتقاضين، خاصة بسبب تناقض القوانين وعدم حسن تكييفها مع متطلبات الحياة اليومية، وقسوتها واستحالة تطوّرها للاستجابة للحاجات الجديدة للمتقاضين.
إنّ المحاكم الاستثنائية هي التي ترتكب الانتهاكات الأكثر مباشرة للحريات وحقوق الإنسان. غالباً ما يُعتبر المجلس العدلي محكمة سياسية نظراً إلى عدم إمكانية تكليفه بأي قضية إلاّ من قبل السلطات السياسية، وهو يمثّل انتهاكاً صارخاً لأحكام القانون الدولي لحقوق الإنسان، نظراً إلى غياب أي طريقة لمراجعة الأحكام الصادرة عنه. أمّا المحاكم العسكرية، فاتساع نطاق الصلاحية الممنوحة إليها وتعزيز دورها يثيران القلق في هذا التقرير.
بالتالي، فطريقة تأليف المحاكم الاستثنائية وتنظيمها وطريقة عملها تشكل جميعها انتهاكاً للمبادئ التي تصون الحق بمحاكمة عادلة أمام محكمة مستقلة. فالقوانين التي تنظم هذه المحاكم هي إلى حدّ ما مخالفة للدستور ولاسيما لمبدأي الاستقلالية والحيادية في إصدارها للأحكام ولاحترام حقوق الدفاع. العقبات التي تواجه استقلال القضاء وحياده تشكّل مسألة استقلال القضاء موضوع نقاش مستمرّ في لبنان حيث يواجه الرأي العام أزمة ثقة فعليّة بالسلطة القضائية. التهديدات الناجمة من داخل الجهاز القضائي نفسه يحتلّ مجلس القضاء الأعلى، بصفته الهيئة الضامنة لحسن سير القضاء واستقلاله وحسن سير العمل في المحاكم، حيّزاً خاصاً في هذا التقرير.
غير أنّه من الواضح أن مجلس القضاء الأعلى لا يعزّز استقلال القضاء إن لناحية طريقة تأليفه أو لناحية سير عمله. تركّز الانتقادات الموجّهة إلى مجلس القضاء الأعلى، بشكل خاص، على غياب الشفافية والمعايير الواضحة والموضوعية المتبعة في إجراءات تعيين القضاة أو نقلهم أو ترقيتهم.
وقد ذهب بعض القضاة إلى حدّ مطالبة المجلس مباشرة بتعديل ممارساته لضمان احترام استقلاليتهم ونزاهتهم. من جهة أخرى، يطرح التنظيم القضائي مشكلة بحدّ ذاته نظراً إلى أن القواعد التي ترعى عملية اختيار القضاة وتدريبهم وتدرّجهم وضمانات عدم جواز نقلهم بالإضافة إلى الإجراءات التأديبية المتخذة في حقّهم لا تضمن حتّى استقلالهم الفعلي.
كما أن القيود المخالفة للمعايير الدولية والمفروضة على حرية القضاة في التعبير وتأسيس الجمعيات والاجتماع تجسّد بشكل واضح الانتهاكات المرتكبة ضدّ استقلاليتهم. في ظلّ هذا السياق المثقل بالشوائب والمصاعب، باشر عدد من القضاة اللبنانيين التداول مؤخراً بشأن إمكانية تأسيس جمعية للقضاة، وهي مبادرة لاقت استحسان ودعم المجتمع المدني. التأثيرات الخارجية فضلاً عن ذلك، تشكّل تدخّلات السلطات السياسية وتلك الدينية تهديداً إضافياً لاستقلال القضاء، إذ يمكن لهذه التدخلات مثلاً عرقلة إجراءات التعيين والنقل إلى جانب إعاقة سير العمل في المؤسسات القانونية.
علاوة على ذلك، يأسف التقرير لسوء العلاقة القائمة بين السلطة القضائية ووسائل الإعلام. الفساد القضائي نظراً إلى قلّة الضمانات الممنوحة للقضاة اللبنانيين، يحاول بعض المسؤولين السياسيين استغلال الوضع وتمرير ممارسات مشبوهة أو غير مشروعة من خلال رشوة القضاة أو التلاعب بشروط تعيينهم. بشكل عام، تؤدّي الممارسات القائمة على الرشوة والشائعة في السلك القضائي إلى تفاقم أزمة الثقة القائمة حيال القضاء اللبناني.
التوصيات بعد التذكير بالتوصيات العامة الصادرة عن الشبكة الأورو - متوسطية لحقوق الإنسان في العام 2004 ]1[، يورد التقرير سلسلة من 58 توصية متعلّقة بالنظام القضائي اللبناني: توصيات موجهة إلى السلطات اللبنانية - احترام المعاهدات الدولية: المضيّ بعمليات المصادقة وملاءمة التشريعات الوطنية وتدريب القضاة - تعديل الدستور اللبناني والقوانين الوطنية التي ترعى تنظيم السلطة القضائية لضمان استقلال القضاء بشكل فعلي عن النظام السياسي والطوائف الدينية وسائر السلطات الأخرى - إصلاح مجلس القضاء الأعلى: تعديل القواعد التي ترعى تأليف مجلس القضاء الأعلى وتعييناته وطريقة سير عمله بما يضمن استقلاله ويسمح له بممارسة دوره القاضي بحماية القضاة اللبنانيين. - التنظيم القضائي: إصلاح القواعد التي تحكم عملية اختيار القضاة وتدريبهم وتعيينهم وتدرّجهم وشروط وظائفهم، وتكريس الاحترام الكامل لحقّهم بحرية التعبير عن الرأي وتكوين الجمعيات والاجتماع على المستوى القانوني والفعلي - تحسين مستوى تدريب القضاة: التوعية على المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان/تأمين تدريب مستمر.
- إلغاء المحاكم الاستثنائية وإحالة صلاحياتها إلى المحاكم العادية.
- وضع المحاكم الدينية تحت رقابة مجلس القضاء الأعلى وإشرافه وتكريس مبدأ المراجعة الاختيارية لهذا النوع من القضاء.
توصيات موجهة إلى الاتحاد الأوروبي: - تشجيع لبنان على تعزيز احترامه للمعايير الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان: ملاءمة التشريعات الوطنية، المضيّ بعملية المصادقة على المعاهدات الدولية، تعديل الدستور اللبناني.
- تشجيع السلطات العامة على إجراء الإصلاحات وتقديم الدعم )المالي( لعمل المجتمع المدني في هذا المجال توصيات موجهة إلى منظمات المجتمع المدني - تنسيق عملها وتوعية السكّان على مسألة استقلال القضاء وحياده.
- تشجيع المحامين على الاستناد إلى القانون الدولي لحقوق الإنسان ووضع خطّة عمل للإصلاحات القضائية بالإضافة إلى استراتيجية ضغط أمام مجلس النواب والحكومة والمؤسسات الوطنية الأوروبية. ملاحظات لا بد من الإشارة إلى أن هذا التقرير لا يدّعي تقديم تحليل شامل لوضع النظام القضائي الراهن في لبنان؛ كما أنه لا يرمي إلى توجيه نقد منهجي للقضاء اللبناني بوضعه الحالي.
على الرغم من أن التقرير يعكس، بشكل عام، صورة سلبية عن النظام القضائي في لبنان، غير أنه يحيي في الوقت نفسه الرغبة الفعلية في الإصلاح الموجودة في لبنان والشجاعة التي يبديها العديد من القضاة اللبنانيين في سبيل ضمان استقلال نزيه وعادل للمواطنين.
لا يكتفي تقرير الشبكة الأورو - متوسطية لحقوق الإنسان بالإعراب عن تقديره لهؤلاء القضاة، وإنما يرمي إلى تزويدهم بالدعم الملموس لتشجيع مبادرتهم وحثّهم على الاستمرار في الجهود التي يبذلونها من أجل تعزيز استقلال النظام القضائي وحياده.
رصد لبنان الجديد