يوماً ما كانت الحرب مقدّسة. كانت صليبية تودّ استرداد الأراضي المقدّسة وإسلاميّة تنوي فتح العالم وهديه إلى الإسلام. ثم باتت أمميّة وعالميّة استعماريّة مطلع القرن العشرين لتصبح باردة وتتقلّص إلى نزاعات إقليمية راهنة. غير أن وقودها الدائم إلى جانب الشعوب هم الجنود الذين يقضون بالملايين استشهاداً وأسراً وتعذيباً وتشرّداً، وأحياناً نفياً وعقاباً عندما يستخدمون قوّتهم – نقصد الجنود لا الطغاة - ليكونوا مجرمي حروب وإبادات عرقيّة في الجزائر ورواندا وكوسوفو والبوسنة وسواها. قال الشاعر الروماني هوراس: "إنه لمن العذب والمجيد الموت في سبيل الوطن".
ثم فعلت صورة الجندي والمقاتل فعلها تاريخياً في ذهن البشرية وكُلّلت بهالة من القداسة والفعل البطولي. لكن الفترة الأخيرة شابت صورة العسكري بعض الاتهامات والتهكمات. سواء خلال مظاهرات الحراك الشعبي التي أدّت إلى مواجهات بين القوى الأمنية – لا الجيش – والمتظاهرين، كما بُعيد إطلاق سراح العسكريين الذين اختطفهم تنظيم #جبهة_النصرة، في آب 2014، حيث قام كثيرون بإدانة تصريحاتهم. فأي صورة سترسخ في أذهاننا عن العسكر بعد اليوم؟
خصوصيّة لبنان: لمَ لا تهتزّ صورة الجيش؟
أستاذ البروباغندا الإعلامية في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية والدكتور في علم النفس الاجتماعي نزار أبو جودة يشرح في مقاربة ماكروسوسيولوجية كيف تنظر الدول إلى العسكر، يقول "في ذهنيّة الأمم تعتبر القوى المسلّحة ركناً من أركان الدولة والنظام. يولج #الجيش بحماية الحدود والقوى الأمنية بفروعها بحفظ الأمن الداخلي.
أما في الذهنية اللبنانية فبعد #الحرب_الأهلية، التي كانت حرب ميليشيات، بقي الجيش رمز الدولة والجامع الوحيد، وارتبطت فكرة سقوطه في ذهن المواطن بسقوط الدولة والعودة إلى الحرب. على رغم أن فريقاً يعتبر نفسه ابن الجيش وآخر يعتبر أن الجيش يحاربه، تمّ الحفاظ على صورة العسكري في الوعي واللاوعي الجماعيين لأنها تساوي بقاء البلد".
لكن في الواقع يُطلب من الجيش التدخل في مواجهات داخلية مثل التصدي للشغب في وسط بيروت ليل 23 آب والعديد من الحوادث المماثلة في طرابلس وصيدا وأحياء بعلبك، ألا يغيّر ذلك من صورته؟ يجيب أبو جودة "الفرق بيننا وباقي الدول أن الجيش لا يتدخل إلاّ في حالات الطوارئ القصوى أو المستعصية مثل حوادث 11 أيلول في #الولايات_المتحدة لأن الإنذار كان ذا مستوى عال من الخطورة.
لكن في لبنان يتدخل الجيش في إشكالات العشائر والأحياء الصغيرة، لسبب أن لا سواه يلقي القبض على المطلوبين الخطيرين ولأنه يمتلك قوة أكبر. كذلك فإن صورة نمطية تجعل من الدركي عنصراً يتعاطى مع الأمور الصغيرة كما يُعتبر ابن النظام وتركيبة الأجهزة الأمنيّة والمحسوبيات، وليس قادراً على ضبط الأمن فعلياً.
في الخارج الفساد منظّم ومقونن حيث يبقى الإنسان يشعر بالأمان". وفي مقاربة ميكروسوسيولوجية، يرى أبو جودة "أن صورة #الدركي الذي ينظّم محضر ضبط مقابل جبل نفايات وفي طرقات عائمة بالمياه تحيلنا على التفكير بالشروط والحقوق الأساسية غير المؤمّنة ونربطه بها وبالمسؤولية عنها".
بروباغندا الأجهزة والشعب: أيّهما ينجح؟
قابلت بروباغندا الدولة بروباغندا الحراك المدني، الصور والفيديوات والكلمات المتضادة. صورة شرطي المجلس الذي يضرب أحد الشبان بعصاه، صورة الدركي المنهار خلال المواجهات، صورة القوى الأمنية تسحل الشباب، شريط فيديو الدركي الذي قبّل رأس أجود عياش وقال له "إنت قد بيي كيف بدي إضربك؟"، فيديو لدركي يُنعش أحد المصابين.
ثم حفل شهر كانون الأول الماضي بصور العسكريين المحررين خلال استقبالهم في السرايا الحكومية وساحة #رياض_الصلح، بعدما كانت فيديوات كثيرة نُشرت لهم خلال مرحلة خطفهم.
كما أن صفات عودتهم أبطالاً قوبلت حالاً بتوصيفات الذل للصفقة المعقودة، كذلك قوبل سابقاً شعار القوى الأمنية "منكم لكم لحمايتكم"، بشعار مضاد صيغ معكوساً "منكم لكم عليكم" وزيدت إليه صور المواجهات العنيفة والاعتقالات. فأي صورة سترسخ في ذهن اللبناني بعد مرور هذه المرحلة؟ يجيب أبو جودة قائلاً "البروباغندا تفعل فعلها ولا ندري الآن أي صورة أو أي بروباغندا سترسخ في ذهن المواطن وأيهما ستربح حرب الصور والكلمات القائمة. علينا أن ندرس رأيه الآن ثم بعد أشهر ثم بعد فترة أطول.
ثمة معركة فيها صعود وهبوط.
لكننا في الحالين لا ننسى أن الجندي لديه أوامر ينفذها في حفظ الأمن، والكلام على الجيش دوماً ينعكس سلباً على باقي القوى الأمنية التي تخضع لمزايدات سياسية وحسابات طائفية. للجيش صورة ورمز وله قدسيته ويُعتبر خشبة الخلاص في الدول التي تعاني خضّات أمنية، مع العلم أنه في تركيبته الداخلية قد يكون فاسداً أكثر من باقي المؤسسات. وفي الواقع من يؤمن بالقوى الأمنية يرفض الاقتراب منها خلال المواجهات أو في التعليقات، أما المؤمن بالتغيير الشامل والكليّ فلا مشكلة لديه في انتقادها أو مواجهتها على الأرض".
لا مقدّس: علينا تصويب الصُور في حرب الصور بين الحراك وقوى الأمن، وفي حرب الكلمات بين رافضي صفقة تبادل العسكريين والمهللين لعودتهم، إلى أين يتجه الرأي العام اللبناني؟ هل نظلم جنودنا وأي بروباغندا ستربح؟ الأسئلة كثيرة لكن الوقت وحده الكفيل بتظهير الأمور وترسيخ الصورة أكثر، عندها يظهر أي بروباغندا سيُكتب لها الاستمرار وكم هو عدد المتعاطفين مقابل المزدرين. ففي ميتولوجيا المقدّس والقصص الشعبيّة والمتخيل الشعبي تكون وظيفة العسكري "حُلميّة" أي أننا نراه كائناً استثنائياً. فتأثير سرد الأحداث ومتابعة التطورات يجعلنا نقدّر هذا الكائن الاستثنائي المقدام والشجاع الموجود على الحدود ومناطق الخطر والمعرّض للنصر أو الهزيمة، لذلك إن كان ضحيّة فسنحوّله إلى بطل عرفاناً لجميله. من دون أن ننسى أن البعد الديني يُظهر العسكري على أنه رسولاً يجازيه الله على أعماله.
وعليه فإن الجيش يخوض الحرب عنا (#عرسال، #نهر_البارد، #عبرا...) ويحمينا، الهالة لديه كبيرة أما الدركي فيرتبط عمله بالشؤون الصغيرة.
في كليّات الإعلام يدرّس الجيش على أنه مقدس ويُمنع التعرض له وكذلك في مؤسسات الدولة، أما اليوم فأي حديث يطال الجيش فهو فقط لأنه دخل البازار السياسي. الأمر يختلف بالنسبة إلى باقي #القوى_الأمنية. لكن المطلوب هو تصويب استخدام #الصورة. لا شيء مقدّس وغير قابل للدرس والنقد. علينا إنصاف الصورة لأن العسكريين بالفعل - على اختلاف وظائفهم - ليسوا كما نراهم في الصور خلال مرحلة معيّنة. علينا بعدم الاستهتار والاستخفاف بالصور المعروضة لأن تأثيرها كبير. كلّ ذلك جراء السرعة التي نعيشها في الإعلام وفي مواقع التواصل حيث نسيء استخدام الصورة، كأن فعلها ظرفيّ وعابر ولا تأثير لها، إنما الواقع والعلم مختلفان تماماً.
النهار