تكفي اليوم معرفة واقع سعر صرف الدولار مقابل الليرة في العاصمة دمشق، حتى يمكن استنتاج ما سيكون عليه حال سعر الصرف في جميع المناطق، الخاضعة منها لسيطرة الدولة أو تلك التي هي بيد المجموعات المسلحة والتنظيمات التكفيرية، وإن كان هناك فارق من بضع ليرات، إنما يبقى محدوداً ومتواضعاً مقارنة بالمتغيرات التي طرأت على الجغرافيا الاقتصادية للبلاد خلال سنوات الحرب.
أسواق كثيرة حلّت مكان السوق الوطنية الواحدة، لدرجة أن كل منطقة أصبح لها سوقها الخاصة المتفردة بقوانينها وخدماتها وأسعارها وسلعها، فالأسواق الناشئة في الشمال السوري تختلف في أنشطتها وأنظمتها عن تلك القائمة في مناطق الجزيرة، والأسواق الموجودة في الجنوب تحاول إدارة عملها بصورة مختلفة تماماً، وحتى أسواق بعض المناطق الخاضعة لسيطرة الدولة تتمايز أحياناً عن نظيراتها بحكم قربها من المعارك الدائرة، أو مدى نفوذ أصحاب المصالح، وتغلغل أثرياء الحرب فيها.
ومع ذلك، فإن سعر صرف الدولار مقابل الليرة، التي لا تزال متداولة في كل بقعة سورية، يبدو متقارباً بين تلك الأسواق، حتى في المناطق التي حاولت فرض الليرة التركية كعملة تداول عوضاً عن الليرة السورية. ففي منطقة معينة نجد أن سعر صرف الليرة يقل بمقدار خمس ليرات مثلاً عن سعر العاصمة، وفي منطقة أخرى يرتفع بمعدل بضع ليرات فقط. ليبدو بذلك سعر صرف السوق غير النظامية في العاصمة، وكأنه سعر «تأشيري» لباقي المحافظات. وبحسب المدير العام السابق للمصرف التجاري السوري، الدكتور دريد درغام، فإن هذا الموضوع «مهم جداً ويستحق الدراسة»، مضيفاً في تصريح لــ«الأخبار»: «عندما نجد أن الكتلة السلعية والنقدية والتداخل الكبير بين المناطق الساخنة والساكنة، يصل إلى درجة تمنع إحداها أن تتصرف وكأنها منعزلة عن الأخرى، لا يمكن لسعر الصرف في أي منها، إلا أن يكون قريباً من الأخرى».
وفي هذا السياق تشير المعطيات إلى أن التبادلات السلعية بين المناطق الساخنة، وتلك الخاضعة لسيطرة الدولة تأخذ شكلين، الأول ويمثل المبادلات التي تجري بعلم الحكومة وتسهيلها ومباركتها، من ذلك تسويق المحاصيل الاستراتيجية من المناطق الخاضعة لسيطرة المسلحين إلى المناطق الآمنة، التي تتجاوز قيمتها مليارات الليرات السورية، وحركة السلع الجارية بموجب تفاهمات غير رسمية كالمنتجات الزراعية الموسمية، والتي تؤكد مصادر وزارة الزراعة لـ«الأخبار» أنه «لا توجد حتى الآن بيانات إحصائية حول حجمها أو قيمتها»، هذا إضافة إلى منتجات المعامل الصناعية الموجودة في مناطق سيطرة المجموعات المسلحة. أما الشكل الثاني، فيتعلق بالتبادلات التجارية غير الشرعية، التي باتت تمثّل رقماً كبيراً، فالمنتجات التركية تغزو الأسواق السورية عبر مناطق الشمال، كما أن كثيرا من المساعدات الغذائية التي تدخل إلى بعض المناطق الساخنة يعاد إدخالها من جديد إلى المناطق الآمنة، وهذا ما جاء في حديث لاقتصادي يتردد على مسقط رأسه في إحدى مناطق درعا بين الفينة والأخرى، إذ كشف لـ«الأخبار» أن بين طرق تهريب المساعدات التي تصل إلى تلك المنطقة، إعادة إفراغ الحبوب وتعبئتها في أكياس كبيرة لبيعها لاحقاً بالجملة وتهريباً في دمشق وغيرها.
في المقابل، فإن عمليات تهريب السلع والمواد من المناطق الآمنة إلى نظيرتها الساخنة تجري هي الأخرى بوتائر متباينة بين منطقة وأخرى، ولاسيما ما يتعلق منها بالمشتقات النفطية، وما تحتاجه المناطق المحاصرة من سلع ضرورية، وهي عمليات صنعت العديد من الأثرياء وأصحاب النفوذ الجدد، وأصبحت أكثر أوجه «الفساد» اهتماماً من قبل الشارع الشعبي، ووسائل التواصل الاجتماعي.
... والنقد أيضاً
كذلك هو حال التبادلات النقدية بين مناطق وأسواق سوريا المتناثرة، فهناك تبادلات نقدية تجري بشكل رسمي وغالبيتها بالعملة الوطنية، وتشمل قيمة السلع والمواد المتدفقة بين تلك الأسواق بشكل نظامي، ورواتب عاملي المؤسسات العامة المقيمين في المناطق الساخنة، الذين لا تزال الدولة تسدد رواتبهم بشكل كامل. وهؤلاء تشير التقديرات إلى أن عددهم يتجاوز 250 ألف عامل، وهذا ما يجعل الدكتور درغام يطالب بالتركيز على هذا الأمر، إذ إن استمرار الرواتب بالليرة السورية في المناطق الساخنة يؤدي دوراً محورياً في تقارب سعر الصرف بين مختلف المناطق، إضافة إلى أن عمليات الشراء من المناطق الآمنة لا يقبلها الكثير من التجار العاديين إلا بالعملة المحلية. لذا فالسعر لا بد أن يتقارب».
لكن يجب عدم الاستهانة أيضاً بدور التبادلات النقدية غير الشرعية وغالبيتها بالدولار، ولا سيما تدفقات القطع الأجنبي التي تنهال على المسلحين كمساعدات ورواتب، والتي تستخدم لشراء الذمم والسلع من جهة، وللمضاربة والمتاجرة من جهة ثانية، وهذا ما لا يستبعده بشار النوري عضو غرفة تجارة دمشق، الذي يشير إلى ان «الدولار في النهاية سلعة من سلع كثيرة يجري تهريبها من المناطق الساخنة إلى الآمنة، وأحياناً تكون المناطق الآمنة ممراً للخروج من البلاد باتجاه لبنان وغيرها، ومثل هذا التدفق النقدي يسهم في تقارب سعر الصرف، أو في زيادة فارقه بين الأسواق بنسب متباينة».
لكن تفسير تقارب سعر الصرف بين مختلف المناطق والأسواق بغض النظر عمن يحكمها ويسيطر عليها، يقود الدكتور درغام إلى طرح تساؤل مصيري، ألا وهو: «هل المهم أن يكون السعر بينهما متقارباً، أم أن يكون السعر متوازناً بحق؟». ويجيب عن ذلك بقوله: «هنا تأتي أهمية ترتيب الأولويات ومعرفة أنه بعد خمس سنوات من الحرب المجنونة على سوريا، لا بد من انتظار المرحلة التي يجري فيها التركيز على الأهداف المتوسطة والبعيدة الأمد، بدلاً من التركيز المحق شكلاً، والمستهجن مضموناً، على أن يكون سعر الصرف هو الأساس، وننسى باقي الأولويات».