كأن التطورات التي ألقت بظلالها على منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الخمــس المنقضية، أبت إلا أن تحظى إسرائيل بنصــيب الأسد من المغانم الاستراتيجية، في وقت لا يتوقف نزيف الخسائر لدى غالبية دول محيطها الإقليمي. فما كادت أنقـــرة تتجرع مرارة التداعيات السلبية لما يعــرف بالحراك الثوري العربي، وما طوى بين ثناياه من مساع للقوى الدولية، بدعم من حلفاء إقليميين لإعادة هندسة المنطقة جيواستراتيجياً قادت بدورها إلى إفشال سياسة «صفر مشاكل» التركية، حتى شرع أردوغان في الهرولة صــــوب إسرائيل متوسلاً التطبيع معها، استجداءً للمزيد من التقارب والدعم من لنـــدن وواشنطن والناتو والاتحاد الأوروبي، وإن اضطر إلى التخلي عن العقبة الكؤود أمام ذلك التطبيع والمتمثلة في شرط رفع الحصار الإسرائيلي عن قطاع غزة.
هرولة
كثيرة هي المعطيات الجيواستراتيجية، التي دفعت بالأتراك إلى تغيير قواعد التفاوض مع الإسرائيليين في شأن إعادة الدفء لعلاقاتهم، لعل من أبرزها: إبرام الاتفاق النووي بين إيران والسداسية الدولية في تموز (يوليو) الماضي وما استتبع من فتح الباب أمام طهران للخروج من نفق العزلة الدولية والعقوبات المفروضة عليها، مثلما تأتي في ارتفاع صادرات النفط والغاز الإيرانية، ومشاركة طهران، بدعم روسي، في محاربة «داعش» في سورية والعراق بالتوازي مع انخراطها في المفاوضات الجارية لتسوية الأزمة السورية سلمياً.
- تعقّد الأزمة السورية بعد التدخل العسكري الروسي واندلاع الأزمة التركية الروسية على خلفية إسقاط مقاتلات تركية من طراز إف 16 لقاذفة روسية من طراز سوخوي 24 قبل نهاية شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وفرض موسكو إجراءات اقتصادية وعسكرية عقابية على تركيا، لا يستبعد أن تطال صادرات الغاز الروسية لها، دفع بالأتراك إلى البحث عن بدائل للغاز الروسي في أذربيجان وقطر وإسرائيل، في الوقت الذي أفضى نشر منظومة صواريخ إس 400 الروسية المتطورة في سورية إلى تبديد آمال أنقرة في إقامة المنطقة الآمنة في شمال سورية.
- إخفاق سياسة «صفر مشاكل» التركية بعد أن صارت تركيا تعيش وسط محيط من الأعداء والمنافسين والخصوم، إذ توترت علاقاتها مع إيران وروسيا والعراق ومصر واليونان وإسرائيل. بالتزامن مع تدهور علاقات أنقرة ببغداد بجريرة تموضع قوات تركية داخل الأراضي العراقية على غير رغبة بغداد ولجوء الأخيرة إلى مجلس الأمن الدولي للفصل في الأمر.
- استمرار الضغوط الأميركية والغربية على أنقرة، بإيعاز من تل أبيب، لحمل أردوغان على تطبيع علاقات بلاده مع إسرائيل من دون تعنت أو شروط مجحفة، في وقت يتزايد احتياج الأتراك للدعم الغربي في مواجهة التصعيد الروسي واللجوء العراقي إلى مجلس الأمن الدولي لإجبار تركيا على سحب قواتها من الأراضي العراقية.
لذلك، وعلى خلاف ما كان متبعاً من سعي إسرائيل الحثيث لاسترضاء تركيا بغية التصــالح معها وإعادة العلاقات إلى سيرتها الأولى، كان الرئيس التركي، رجـــب طيب أردوغان، هو الذي بدأ بمغازلة إســرائيل هذه المرة ودعوتها إلى المصالحة، مشيراً إلى أن الشرق الأوسط سيكسب كثيراً من تطبيع العلاقات بين الجانبين. وكم كان لافتاً أن تدير إسرائيل مفاوضات بلورة ورقة التفاهمات الأولية مع تركيا في سويسرا، من خلال طاقم استخباري يترأسه يوسي كوهين، الذي فاوض الأتراك بصفته رئيساً لمجلس الأمـــن القومي، فيما غابت وزارة الخارجية الإســـرائيلية، كما أشارت صحيفة «هآرتس»، عن مسار التفاوض، ولم تعلم بالأمر برمته إلا عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية، التي انفردت، من دون سواها، بنشر تفاصيل وأسرار المفاوضات ومحتويات ورقة التفاهمات التي تمخضت عنها.
هذا بينما كان يتفاوض عن تركيا وفد ديبلوماسي يترأسه وكيل وزارة الخارجية التركية فريدون سينيرلي أوغلو.
وبناء عليه، بدأت إسرائيل في تغيير موقفها والمطالبة بأن تتم المصالحة وفقاً لشروطها، التي تبيَّن بمرور الوقت ومع انكشاف تفاصيل التفاهمات الأخيرة، أن أنقرة رضخت لها بالكامل. فلقد تضمنت البنود المتفق عليها في ورقة التفاهمات الأولية بين الجانبين: رفع مستوى التمثيل الديبلوماسي بإعادة سفيري البلدين إلى أنقرة وتل أبيب. ومن جانبها، استجابت إسرائيل لشرطين تركيين: أولهما، الاعتذار، حيث قام رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو، بالاعتذار من تركيا في آذار (مارس) 2013. وثانيهما دفع تعويضات لأسر الضحايا الأتراك العشر، حيث تعهّدت الحكومة الإسرائيلية بدفع 20 مليون دولار، عبر تأسيس صندوق خيري لمتضرري سفينة «مافي مرمرة»، شهداء أسطول الحرية، مقابل سحب تركيا الدعاوى القضائية المرفوعة أمام القضاء الدولي ضد العسكريين الإسرائيليين الذين قاموا بالهجوم، بموجب قانون سيتم تمريره في البرلمان التركي لاحقاً.
«حماس» خارج تركيا
ربما لم يكن توصل الإسرائيليين والأتراك لتفاهم في شــأن الاعتذار والتعويض عن حادث أسطول الحرية أمراً مفاجئاً، خصوصاً أن مفاوضات المصالحة بين الجانبين منذ العام 2010 قطعت أشـــواطاً مهمة على هذا الدرب، مع استمرار الغموض حــول شرط رفع الحصار الإسرائيلي عن غزة. غير أن الجــديد من جانب إسرائيل في ورقة التفاهمات الحالية هو ما يتعلق بتقديم حوافز لتركيا في ما يخـــص أمن الطاقة، حيث سيتم الاتفاق على السماح بمــــرور خط للغاز الإسرائيلي عبر أراضي تركيا نحو أوروبــــا، بينما ستنطلق المحادثات بين أنقرة وتل أبيــــب حول إمكانية استيراد الأولى للغاز الإسرائيلي وتعــاون الإسرائيليين والأتراك سوياً في التنقيب عن الغاز في بعض المناطق في شرق المتوسط.
أما جديد تركيا في المقابل، فكان تعهّدات في ما يخص موقع القضية الفلسطينية من مفاوضات التصالح التركي- الإسرائيلي. حيث كشفت القناة العاشرة العبرية، كما صحيفة «هآرتس»، وجود نص ضمن ورقة التفاهمات الأولية، يقضي بأن تلتزم أنقرة بمنع انطلاق «الأنشطة الإرهابية» ضد إسرائيل من الأراضي التركية، ما يعني أن أنقرة وافقت على الشرط الإسرائيلي بمنع «حماس» من البقاء أو النشاط في تركيا عموماً، كما قبلت أيضاً بطرد الناشط في الحركة، صالح العاروري، الذي تتهمه إسرائيل بتحريك وتمويل خلايا إرهابية في الضفة المحتلة والتخطيط لعملية اختطاف وقتل ثلاثة مستوطنين من مستوطنة غوش إيتزيون، ومنعه من دخول تركيا أو الإقامة فيها. أما الأمر الجلل في هذا الصدد، فكان خلوّ ورقة التفاهم بين الجانبين من أية إشارة إلى الشرط الأساسي الذي طالما تمسكت به تركيا للتطبيع مع إسرائيل وعطَّلت من أجله هذا الأمر طيلة السنوات الخمس الفائتة، وهو ضرورة إنهاء الحصار عن قطاع غزة.
وخطورة التراجع التركي أنه يصيب في مقتل صدقية أردوغان في ما يخص القضية الفلسطينية أمام مؤيديه داخل بلاده من المحافظين والمتدينين، وفي خارجها على مستوى العالمين العربي والإسلامي، الأمر الذي قد يحمل في طياته عواقب وخيمة على شعبية أردوغان وصورته في الداخل والخارج. فلطالما تغنى الرجل وتباهى بدعمه للقضية الفلسطينية وعدم استعداد بلاده للتخلي عن هذا الدعم مهما كانت الظروف. ففي أعقاب حادث أسطول الحرية عام 2010، خطب أردوغان غير مرة في شعبه غير متجاهل العالم أجمع، في البرلمان التركي، وفي مدينتي قونيا وبورصة، مؤكداً أن غزة بالنسبة إلى بلاده قضية تاريخية ولن تتراجع أنقرة عن رفع الحصار المضروب عليها. كما سبق لأردوغان أن أثار حفيظة الأميركيين والإسرائيليين والمعارضة التركية حينما أعلن أنه لا يقبل بتصنيف حركة «حماس» على أنها منظمة إرهابية، معتبراً إياها حركة مقاومة تقاتل للدفاع عن أرضها، وأن الكثير من أعضائها معتقلون في السجون الإسرائيلية مع أنهم فازوا في اـــنتــخابات ديموقراطية وحرموا مــن حقهم في الحكم، وطالب بضرورة إشراك حركة «حماس» في عملية السلام. الأمر الذي جعل من أردوغان بطلاً شعبياً بين المسلمين في تركيا وخارجها على نحو مهد الأجواء في حينها لما يمكن أن يطلق عليه ظاهرة «الأردوغانية»، أو «الترك فوبيا».
وتجدر الإشارة إلى أن العلاقات التركية- الإسرائيلية لم تتأثر في شكل ملموس جراء تعرض سفينة مرمرة الزرقاء، التي كانت تحمل مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة المحاصر، لهجوم من قبل جنود إسرائيليين في المياه الدولية، في 31 أيار (مايو) 2010، أسفر عن سقوط عشر ضحايا أتراك وجرح عشرين آخرين. فبينما انحصرت الإجراءات التركية على أرض الواقع، في استدعاء أنقرة السفير التركي من تل أبيب وإلغاء حكومة العدالة والتنمية ثلاث مناورات عسكرية مشتركة كانت مقررة مع الجيش الإسرائيلي، فضلاً عن مباراة في كرة القدم بين المنتخبين التركي والإسرائيلي، كما أصدر البرلمان التركي قراراً بالإجماع يدعو إلى مراجعة العلاقات مع إسرائيل، أخذت نبرة المسؤولين الأتراك تشهد خفوتاً تدريجياً ملحوظاً خلال الأيام القليلة التالية، في ما يخص الإجراءات العقابية الممكنة ضد تل أبيب. حيث تبارى الرئيس التركي ورئيس وزرائه في التحذير من التداعيات السلبية التي قد تترتب على تقليص العلاقات مع تل أبيب إلى حدها الأدنى وتجميد مشاريع متعددة للتعاون على أكثر من صعيد.
وبدوره، فاجأ وزير الدفاع التركي الجميع بتأكيده أن أزمة أسطول الحرية لن تدفع بلاده إلى تجميد أي اتفاق للتعاون العسكري مع إسرائيل، لاسيما ذلك الذي أبرم مطلع العام 2010 والمتعلق بتصنيع معدات عسكرية يستخدمها الجيش التركي لقصف مواقع حزب العمال الكردستاني، فضلاً عن مشروع آخر بقيمة 183 مليون دولار يشمل تصنيع عشر طائرات من دون طيار من طراز «حيرون»، وما يتصل بها من معدات عسكرية يعتمد عليها الجيش التركي في عمليات المراقبة والاستطلاع.
وعلى صعيد التعاون الاستخباري، وبعد أن أشار نايغل إينكستر؛ خبير المخاطر عبر الحدود في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، إلى خصوصية العلاقة الوثيقة بين «الموساد» ووكالة الاستخبارات التركية «أمايتي»، حتى في عهد حكومة أردوغان، استند الخبير البريطاني إلى تصريحات مسؤولين أمنيين وعسكريين أتراك، لاستبعاد انعكاس أي تأزُّم محتمل في العلاقات بين أنقرة وتل أبيب بجريرة حادثة أسطول الحرية، بالسلب على التعاون الوثيق بين الحليفين الاستراتيجيين في المجال الاستخباري، خصوصاً بعدما أكدت صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية عدم إقدام تركيا على إغلاق القاعدة التي أقامها الموساد شرق الأراضي التركية لأغراض التجسس على إيران وغيرها.
العودة إلى الغرب
ومع تعقُّد الأزمة السورية على أثر التدخـــل العسكري الروسي، ثم اندلاع أزمة إسقاط أنقرة للقاذفة الروسية من طراز سوخوي 24، بدأت تلوح في الأفق مساعي تركيا إلى الاستقواء بحلفائها الغربيين عبر العودة للارتماء في أحضانهم، وقد ظهرت ملامح أو بوادر تلك العودة على صعيدي الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسى.
ففيما يخص الاتحاد الأوروبي، أثمرت القمة الأوروبية التركية التي عقدت في بروكسيل نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، اتفاقات عدة مبشرة لتركيا في ما يخص حلمها الأوروبي، حيث قضت برفع تأشيرة الدخول عن المواطنين الأتراك أثناء الدخول إلى دول اتفاقية شينغن اعتباراً من نهاية العــام المقبل، علاوة على إحياء ملــف انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وفتح فصل جديد في المفاوضات حول الفصل الرقم 17 الخاص بالسياسات المصرفية والنقدية. وذلك بعد توقف دام عامين، مع وعود بفتح خمسة فصول أخرى. كما تم توقيع اتفاقية خطة عمل لوقف تدفق اللاجئين والمهاجرين عبر تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، تضمنت تقديم دعم يبلغ ثلاثة بلايين يورو كمساعدات للاجئين السوريين في تركيا ونقل عدد منهم إلى الدول الأوروبية، وذلك في حال التزمت تركيا وقف تدفق اللاجئين إليها. وفي اليوم التالي مباشرة، أفاد وزير الشؤون الأوروبية وكبير المفاوضين في الحكومة التركية فولكان بوزكير، بأن المفاوضات الجارية بخصوص الأزمة القبرصية، باتت أقرب إلى الحل، أكثر من أي وقت مضى، بما سيفتح فرصاً إيجابية جديدة لكلا الطرفين. الأمر الذي دفع رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو منتصف الشهر الجاري، إلى القول إن بلاده حققت خلال المفاوضات الأخيرة مع الاتحاد الأوروبي نتائج مهمة تفوق ما تم تحقيقه خلال مفاوضات الـ 14 عاماً الماضية.
وفي ما يتصل بحلف شمال الأطلسي، أعلن أمينه العام منتصف الشهر الماضي استجابة الحلف لمطلب تركيا بتمديد نشر بطاريات صواريخ «باتريوت» في ثلاث محافظات تركية هي قهرمان مراش، غازي عينتاب، وأضنه، لعام جديد، وكان من المقرر أن تنتهي مدة عمل تلك المنظومات في 26 الشهر الجاري. وقبل أسابيع، أعلن الأمين العام لـلحلف ينس ستولتنبرغ أن الحلفاء اتفقوا على إرسال طائرات وسفن حربية وأجهزة إنذار مبكر متطورة إلى تركيا، بعد إرسال فرقاطات ألمانية وطائرات «تورنيدو» بريطانية في السابق، بغية تقوية الدفاعات الجوية لأنقرة على حدودها مع سورية، ضمن إجراءات وصفها بالدفاعية، تهدف إلى تفادي تكرار حادث إسقاط تركيا طائرة حربية روسية، كما ستتيح للحلف فهماً أفضل للوضع، ومزيداً من الشفافية ومزيداً من إمكان التنبؤ، ما من شأنه المساهمة في تحقيق استقرار الوضع في المنطقة وفي تهدئة التوترات.