تحت مظلة ما يسمى «التنسيق العسكري والاستراتيجي» مع أطراف دولية وإقليمية فاعلة في مجريات الأزمة السورية، جاء التدخل العسكري الروسي في سورية، نهاية أيلول (سبتمبر) الماضي.
وبموجب ذلك التنسيق، نحّى الإيرانيون جانباً إرثاً تاريخياً مثقلاً بالصراعات مع الروس، فلم تتردد طهران في الترحيب بتدخل موسكو والاتفاق على أن تكون الهيمنة على الأجواء السورية لروسيا التي يتمتع سلاحها الجوي بحضور لافت، تعززه منظومة صواريخ أس 400 المضادة للصواريخ والطائرات في آن، فيما تبقى السيطرة البرية على الأرض لإيران التي لا تزال تدير أكبر شبكة مقاتلين تضم ميليشيات عراقية وأفغانية تساند نظام الأسد فضلاً عن «حزب الله» اللبناني.
وفي مسعى لاسترضاء الإيرانيين وتعزيز أواصر التنسيق العسكري معهم، أعلنت موسكو في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي نيتها تعجيل تسليم منظومة صواريخ أس 300 روسية الصنع المضادة للصواريخ لإيران، بعد استكمال التحضيرات وتسوية المشاكل البيروقراطية والقانونية المتعلقة بهذا الأمر منذ رفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في نيسان (أبريل) الماضي حظراً حكومياً على تصديرها إلى إيران في عام 2010. وفي محاولة للعب دور فاعل في برنامج إيران النووي، عقب إبرام الأخيرة الاتفاق النووي مع السداسية الدولية في تموز (يوليو) الماضي، فتحت موسكو أبوابها، انطلاقاً من هذا الاتفاق، لمبادلة اليورانيوم الإيراني المخصب باليورانيوم الروسي الطبيعي، فضلاً عن إعادة هيكلة المحطة النووية الإيرانية في «فوردو» في غضون أشهر.
وفي مطلع تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، قررت روسيا وسورية والعراق وإيران إنشاء مركز معلوماتي في بغداد يضم ممثلي هيئات أركان جيوش الدول الأربع، على أن يُعنى المركز بجمع ومعالجة وتحليل المعلومات الاستراتيجية عن الوضع في منطقة الشرق الأوسط في سياق محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، مع توزيع هذه المعلومات على الجهات المعنية وتسليمها إلى هيئات أركان القوات المسلحة للدول المشاركة، وأن تكون رئاسته بالتناوب بين ضباط من روسيا وسورية والعراق وإيران بحيث لا تتجاوز فترة إدارة كل طرف ثلاثة أشهر. وتطلعت الأطراف المشاركة أن يخلق هذا المركز في الأفق القريب ظروفاً مواتية لتشكيل لجنة تنسيق على أساسه لضمان التخطيط العملياتي وإدارة قوات روسية وسورية وعراقية وإيرانية في محاربتها لـ «داعش».
وعلى رغم أن مساعي موسكو لترسيخ دعائم تفاهماتها العسكرية مع طهران في سورية، تكللت بالزيارة الأخيرة التي قام بها بوتين لطهران والتي أبرم خلالها عدداً من اتفاقات التعاون، إلا أن تلك الجهود لم تكن لتحل دون تفجر دواعي الخلاف بين الطرفين داخل سورية، كهواجس طهران من أن يفضي الحضور العسكري الروسي المتفاقم في هذا البلد إلى تعاظم النفوذ الروسي في سورية في مقابل تراجع مثيله الإيراني، وهي الهواجس التي ترافقت مع شعور متنام لدى الإيرانيين بتجاهل الروس مصالحهم في سورية التي تستند لاعتبارات مذهبية وطائفية بالأساس. هذا فضلاً عن الخلاف بين موسكو وطهران حول مصير الأسد وحدود دور «حزب الله» في سورية. حيث استبدت بالمسؤولين الإيرانيين مخاوف من أن تفضي المفاوضات بين موسكو وواشنطن ودول عربية أخرى مناهضة للأسد من أجل إيجاد حل سلمي للأزمة السورية، إلى تفاهمات سرية لتسوية تلك الأزمة، تكفل الحفاظ على وحدة الدولة السورية وبقاء مؤسساتها مع إطاحة الأسد لاحقاً، وهو ما يهدد مصالح إيران في سورية والمنطقة.
بيد أن أبرز معالم الخلاف بين موسكو وطهران في سورية بدت جلية في انكشاف هشاشة التنسيق العسكري بين الطرفين مقارنة بذلك الحاصل بين تل أبيب وموسكو. حيث يتسم الأخير بأنه «استراتيجى» وعالي المستوى، إذ يتيح للطائرات الحربية الروسية اختراق الأجواء الإسرائيلية بأمان، فيما يتيح للمقاتلات والصواريخ الإسرائيلية تنفيذ عملياتها ضد أهداف متنوعة داخل سورية بغير معوقات روسية. فعلى رغم قناعة الإيرانيين بأن التنسيق الروسي - الإسرائيلي- الأميركي في سورية، قد يكون بداية لبلورة آلية أشمل لمنع حدوث أي تصعيد عسكري على الجبهة الشمالية كلها، ما قد يصل إلى حدّ تحوّل الخط الساخن بين روسيا وإسرائيل إلى قناة لتبادل الرسائل بين إيران وإسرائيل وحزب الله، إلا أن طهران ترى في توافقات بوتين مع نتانياهو حول سورية إبان زيارة الأخير لموسكو، إنما جاء في سياق المساعي الروسية والعربية والإسرائيلية للجم النفوذ الإيراني المتنامي في سورية والعراق، خصوصاً مع وجود قناعة لدى طهران بأن السياسة الروسية تجاهها تسند تاريخياً إلى دعامتين: إبقاء إيران ضعيفة، ومنعها من الانضواء تحت لواء أي تحالف غربي. وتعززت مخاوف طهران من التنسيق الروسي الإسرائيلي بعد استهداف الغارات الروسية قادة عسكريين إيرانيين أو موالين لإيران داخل سورية. فإلى جانب اغتيال سمير القنطار، القيادي في حزب الله في ريف دمشق عبر صواريخ باليستية في إطار التنسيق الاستراتيجي بين تل أبيب وموسكو، أرجع قادة ميدانيون في «الجيش السوري الحرّ» تنامي الخسائر البشرية في صفوف القوات الإيرانية في سورية، والتي لم تخل من ضباط برتب عالية، إلى القصف الروسي الذي يطاول تجمعات وجود المقاتلين الإيرانيين على الأرض. فالطيران الروسي قصف أخيراً حاجز ملوك في ريف محافظة حمص الذي توازي مساحته مساحة ملعب كرة قدم، وقتل فيه عدداً كبيراً من الإيرانيين، كما قصف مقراً إيرانياً في ريف حلب الجنوبي.
وأكدت مصادر «الجيش السوري الحر» أن قائد العمليات العسكرية الروسية في سورية كان طلب زيارة مقر القوات الإيرانية في ريف دمشق المتخصّصة بعمليات التدريب، لكــــن المسؤول الإيراني رفض استقباله وغيّر مكان إقامـــته، فكانت المفاجأة أن هذا المسؤول الإيراني قتل مع سمير القنطار في إحدى ضواحي العاصمة السورية، الأمر الذي دفع طهران إلى اتهام روسيا ضمناً بالتنسيق مع إسرائيل من أجل تصفية قادة القوات الإيرانية وقادة «حزب الله» في سورية.
وترسخت المخاوف الإيرانية بعد الاتصال الهاتفي بين رئيس الوزراء الإسرائيلي والرئيس الروسي بعد ثلاثة أيام من اغتيال القنطار، والذي صدر على أثره عن البلدين بيانان شبه متطابقين، أكدا استمرار تعاونهما «الممتاز» من أجل محاربة كل صور الإرهاب والتطرف «الإسلامي» داخل سورية. ولعل هذا ما دفع الإيرانيين إلى سحب وحدات من قوات الحرس الثوري في سورية، كانت تقاتل إلى جانب الأسد، ونقلها إلى العراق، بعدما تراءى لهم أن موسكو تولي أهمية أكبر لتنسيقها الاستراتيجي مع إسرائيل على حساب التعاون العسكري الظرفي مع طهران.
وبالتزامن، أبدت إيران استياءها من إصرار روسيا على خرق اتفاقات الهدنة التي تبرمها طهران مع فصائل مسلحة من المعارضة السورية، حيث لم تتورع المقاتلات الروسية عن قصف مناطق في ريف إدلب تقع ضمن اتفاق الهدنة الذي رعته إيران وتركيا، فيما خرق الطيران الروسي الهدنةَ المبرمة بين إيران وما يسمى بـ «جيش الفتح» في محيط كل من الفوعة وكفريا في ريف إدلب، والزبداني في ريف دمشق. وكانت المرة الرابعة التي يخرق فيها الطيران الروسي مناطقَ الهدنة التي عقدت بعد مفاوضات مضنية بين وفد إيراني وحركة «أحرار الشام» في مدينة إسطنبول. كذلك، أبت موسكو إلا منازعة طهران في جهود إقرار الهدنة في الزبداني هذه الأيام، الأمر الذي رأت فيه طهران ضربة لدورها السياسي في الأزمة السورية.
ومن رحم ما ذكر آنفاً، تتجلى أعراض هشاشة التنسيق العسكري بين موسكو وطهران، أو بالأحرى «علاقة التوظيف المتبادل» القلقة بين الجانبين في سورية. فالأولى حاولت توظيف الأخيرة عبر استخدامها كورقة استراتيجية في صراعها الدولي المحموم مع واشنطن والغرب، علاوة على توظيف أجوائها ونشاطها العسكري البري في سورية لخدمة المشروع الروسي هناك، فضلاً عن استثمار النفوذ الإيراني في العراق للغرض ذاته. فيما حرصت طهران في المقابل، على الاستفادة من الضربات الجوية الروسية لتأمين الوجود العسكري البري الإيراني في سورية، إضافة إلى كبح جماح التطلعات الغربية والعربية المعادية، وتعزيز مساعي كسر العزلة الدولية القاسية والمزمنة على طهران، وصولاً إلى توسل إنجاح استراتيجية استبقاء الأسد بغية حماية المصالح والتطلعات الاستراتيجية الإيرانية، المذهبية الطابع، ليس على الصعيد السوري فحسب، وإنما على مستوى منطقة الشرق الأوسط قاطبة.