أن يتبنى سمير جعجع ترشيح ميشال عون لرئاسة الجمهورية لم يعد أمراً لا مستحيلاً ولا غريباً، خصوصاً أن الرجل يهوى «الانقلابات» تاريخياً برغم الأثمان التي كان يدفعها أو يقبضها في محطات تاريخية عدة.. ولعله، في ما «يفكر» به «حتى الآن»، يبدو مشدوداً أكثر إلى المستقبل.. ليس حليفه السياسي بل الآتي من الأيام والسنوات!
أن يتبنى رئيس حزب «القوات» ترشيح عون في السر أو العلن ويتراجع عنه ليس أمراً جديداً على رجل يتقن «البراغماتية».. ويملك رؤية «إستراتيجية» أقله للواقع المسيحي. لسان حاله يفترض أن يطرح سؤالاً بديهياً: «إذا كان ميشال عون موجوداً ويريدون التخلي عني والتضحية بي، أية وظيفة إستراتيجية لـ «القوات» إذا انتفى وجود الجنرال». إذن، لم يعد مسموحاً استمرار تقزيم الحالة المسيحية «إلا إذا كان البعض يريدنا «شرّابة خرج» أو حالة مستسلمة مطواعة أو مجرد موظفين بالسياسة عند رب عمل يحتسب مواقفنا بالدولارات أو الريالات»!
نعم، سبق لجعجع أن تبنى «القانون الأرثوذكسي» بالتكاتف والتضامن مع عون.. وعندما حان وقت القطاف، فاوض «المستقبل» على كل رموز «14 آذار» المسيحيين من روبير غانم في البقاع إلى هادي حبيش في بلاد عكار، ولمّا جاءه الجواب إيجاباً.. قرر التخلي عن القانون الانتخابي الذي يكره «المستقبل» مجرد ذكر حرفه الأول!
للمرة الأولى منذ شهور، يصبح الحديث في معظم المجالس السياسية عن تحالف عون ـ جعجع رئاسياً، ليس مجرد إشاعة. في الرابية، يتصرف «الجنرال» على قاعدة أن الترشيح صار مضموناً، وهو يعتبر أن من واجباته أن يرد زيارة «الحكيم» إليه، لكن التوقيت يعود لرئيس «القوات»، أو لما يفترض أن يعلنه قبل حصول الزيارة، باعتباره بات مطالباً بموقف ما يمهد للزيارة، ولو أن هناك من يردد في الاتجاهين أن هذا الشرط ليس ملزماً للزيارة نفسها.
حتى البطريرك الماروني بشارة الراعي بات يدرك أن جعجع غادر مربع التهديد بالخيار العوني الرئاسي نظرياً. لقد بلغته الرسالة بشكل واضح جداً غداة لقاء سعد الحريري وسليمان فرنجية: سأرشح ميشال عون إذا قررت بكركي أن تسير بخيار فرنجية.
بالنسبة لقائد «القوات»، صار خيار فرنجية مسألة حياة أو موت. ثمة تاريخ دموي بين بشري وزغرتا له تداعياته. فكرة كهذه عندما تراود جعجع تحاصره ويصبح أسيرها ولا تجعله أحياناً ينام.
هذه هي حكايته مع صدمة ترشيح سعد الحريري لسليمان فرنجية. يستعيد الرجل شريطاً طويلاً. لا يقيم وزناً لكل ما يقال عن طبيعة علاقته المالية بالسعودية و «تيار المستقبل». هو دفع أثماناً أكبر من أجل الطائف، فهل هكذا يُكافأ؟ ولماذا يكمل في الاتجاه نفسه بينما المنطقة تتغير كلها بدولها وحدودها ومراكز نفوذها وحتى ديموغرافية شعوبها؟
اندفع جعجع نحو الرابية. لم يكن «الجنرال» مقتنعاً بصدقه، قبل أن «يكتشف» أن الرجل يذهب إلى خيارات تتجاوز «إعلان النوايا». صارا أمام مشروع وثيقة سياسية متقدمة تفضي إلى جبهة مسيحية متماسكة ركيزتها «التيار الحر» و «القوات»، وتكون صورة طبق الأصل عن «الثنائي الشيعي» («حزب الله» و «أمل»)، أي أن يحافظ كل طرف على خصوصيته وهوامشه وتحالفاته، لعلهما يستطيعان في مرحلة أولى ومن ضمن تحالفهما، إقفال المناطق المسيحية في الانتخابات البلدية والنيابية على حساب العائلات التي تمثل الإقطاع السياسي، بما فيها تلك المغلفة بحزبيات تقليدية (آل الجميل وآل فرنجية) وفي مرحلة ثانية، يضع جعجع نفسه على سكة وراثة الشارع المسيحي مستفيداً من عناصر العمر و «الكاريزما» والعمل المؤسساتي والمقدرات المالية.. وبالتالي، استدراج الخارج وباقي عناصر الداخل للتعامل معه بصفته يمثل الأمر الواقع المسيحي الأقوى.. والأول!
أدرك السعوديون وسعد الحريري أن جعجع ماض في خياره بلا هوادة. لم ينتظروا لا اجتماع «بيت الوسط»، أمس الأول، ولا الاجتماع الذي سبقه قبل شهر ونيف، لكي يتبلغوا من ممثل «القوات» أن معراب تفكر بترشيح عون «لكن هذا الطرح لا يزال قيد الدرس».
ولعل العبارة الأخيرة مرتبطة بما يراهن عليه جعجع من أن اندفاعته صوب الرابية ستجعل الحريري «يفرمل» بالمقابل اندفاعته نحو خيار انتخاب فرنجية رئيساً للجمهورية. فرض ذلك نقاشاً متكرراً في «القوات»: إذا لم يعلن رئيس «المستقبل» رسمياً عن تبني ترشيح رئيس «المردة».. ما هي مصلحتنا بتبني خيار ميشال عون للرئاسة.. أو بالأحرى خيار «حزب الله» مارونياً؟
هذه النقطة حُسمت في معراب: التبني لا يعني بالضرورة وصول عون إلى رئاسة الجمهورية. نحن نكون قد أدّينا واجباتنا مع الرجل وأمام الجمهور المسيحي بما في ذلك العوني. ماذا بعد ذلك؟ هذه ليست مشكلتنا بل مشكلة «الجنرال».
استوجب ذلك طرح أسئلة متعددة أولها هل ينسحب هذا التبني على فرنجية، فيعلن بدوره أنه يؤيد ترشيح «الجنرال» أم يمضي بترشيحه على قاعدة أن وظيفة التبني «القواتي» لترشيح عون، محاولة قطع الطريق على وصول ابن زغرتا إلى القصر الجمهوري؟ لننتظر جواب فرنجية.. وهو على الأرجح لن يكون كما يشتهيه «الثنائي الماروني» الذي تتهمه زغرتا بأنه يكاد يعلن «حرب إلغاء» جديدة ضد كل من لا يبارك تفاهماته.
ثاني الأسئلة، هل يمضي «حزب الله» في تبني عون وهو مدرك أن خيارات جعجع الإستراتيجية متصلة بوراثة الشارع المسيحي، وماذا سيكون موقف الحزب ونبيه بري في حال حصول التبني «القواتي» لعون أم يكون لكل منهما موقفه، أخذاً في الاعتبار ما ردده بري أمام زواره أمس الأول بأنه سيترك في هذه الحالة حرية الخيار لأعضاء كتلته مشترطاً أن يتبنى أيضاً فرنجية ترشيح عون؟
حتى الآن يتمسك «حزب الله» بفضيلة الصمت. مرشحه الوحيد هو ميشال عون. إذا دخل هذا أو ذاك في تفاهم سياسي على هذا المرشح أو ذاك، فهذا أمر لا يعني الحزب وله حديث آخر بطبيعة الحال. المهم أن أي اقتراب إلى حد التبني لخيار عون رئاسياً هو اقتراب من الخيارات التي يمثلها الحزب لبنانياً وإقليمياً.
ولعل الحزب يدرك أكثر من غيره الشهية «القواتية» المفتوحة منذ سنوات على محاولة تطوير العلاقة الثنائية. بدا طموح «القوات» كبيراً منذ خروج سمير جعجع من السجن لإقامة تفاهم سياسي مع الحزب على قاعدة أن القواسم وأوجه الشبه بين الحزبين كثيرة. القواعد التمثيلية متشاركة. مشارب القاعدة والجمهور. العقيدة. التثوير ضد الإقطاع. إعجاب «قواتي» بأداء وزراء الحزب ونوابه. نزع شبهة الفساد عن الحزبين. كلها أمور لم تشكل عناصر إغراء للحزب الذي ظل مصرّاً على فرض إيقاع للعلاقة الثنائية لزوم وجود الجانبين في مؤسسات مشتركة مثل الحوار والحكومة سابقاً ومجلس النواب حالياً، مع ترك هامش يستفيد منه الطرفان بعقد جلسات لا تتخذ طابعاً رسمياً على هامش اللجان النيابية ومنها لجنة قانون الانتخاب.. وهذا أمر صار مألوفاً ومقبولاً عند الجانبين.
لسان حال «القوات» في هذه النقطة تحديداً أن نقطة الخلاف المركزية بينهم وبين الحزب هي قضية السلاح وما يتفرع عنها من عناوين لبنانية وإقليمية.. وعلى الحزب أن يكون «براغماتيا» وأن ينظر إلى مصلحته مستقبلاً، فماذا يضير أن تكون نظرته اللاحقة إلى «حزب الله المسيحي» (بالمعنى التمثيلي والسياسي والتنظيمي) مختلفة عن نظرته إليه اليوم؟
ثالث الأسئلة، هل يستطيع «المستقبل» أن يتحمل كلفة الوقوف بوجه تفاهم الرابية ومعراب رئاسياً، أي تبني ترشيح «الجنرال»، خصوصاً أن سعد الحريري كان قد أبلغ ميشال عون منذ سنتين أنه مستعد للسير به للرئاسة إذا حصل توافق مسيحي عليه؟
الجواب سهل عند الحريري، فهو عندما قال بالتوافق المسيحي، كان يقصد كل المسيحيين، بما في ذلك «الكتائب» و «المردة» وكل الشخصيات المسيحية المصنفة مستقلة في «14 آذار»، ولكن بمعزل عن هذا الجواب، فإن «القوات» تعلم يقين العلم أن القرار الإستراتيجي السعودي حاسم بعدم القبول بعون لرئاسة الجمهورية سواء للأسباب التي ذكرها فؤاد السنيورة قبل شهر أو لأسباب أخرى مختلفة، وأبرزها موقف «الجنرال» من «الصيغة» (الطائف) و «القانون الأرثوذكسي».
الأكيد أن الحريري مُحرج وأوقع نفسه في فخ مواقفه المتناقضة، وهو بدأ يدرك أن استعجاله كاد يحرق ورقة سليمان فرنجية. لكن ذلك لا يمنع من الحشد للرد على جعجع. البداية مع ميشال سليمان في الرياض والدعوة الثانية لحزب «الكتائب» ممثلاً بأمين الجميل وسامي الجميل للقاء الملك سلمان ثم الحريري، لتكر السبحة وتشمل بعض مستقلي «14 آذار». الأساس، هو محاولة خلق جبهة مسيحية تجمع كل المتضررين مسيحياً من التحالف الانتخابي المحتمل بين «القوات» و «التيار».
رابع الأسئلة، هل صحيح أن سمير جعجع يقرأ جيداً تطورات المنطقة من باب المندب إلى حلب، مروراً ببغداد وتفاهم إيران النووي مع «الشيطان الأكبر»؟ وإذا كان هو من سيدفع الثمن في عز اندفاعة السعودي إلى «عاصفة الحزم» و «التحالف الإسلامي» والمواجهات المباشرة على غير عادته التاريخية بخوض الحروب بالآخرين وعلى غير أرضه.. فماذا إذا حصل تفاهم بين السنة والشيعة في المنطقة.. هل أكون أنا أول من يدفع الثمن في لبنان؟
الجواب أن «القوات» تجري مراجعة لكل المشهد الإقليمي.. ولعل البداية من سوريا التي لم تعد وقائعها خافية على أحد.