إذا كانت معظم استطلاعات الرأي تبين تعاظم انعدام ثقة اللبنانيين بأهل السياسة الممسكين بزمام السلطة، فإن السياسيين لا يعتبرون أنفسهم معنيين بتبييض صفحتهم، ولا بردم الهوة، بل يمضون في «أجنداتهم» التي تكلف البلد وأهله.. أفدح الأثمان.
هذه القاعدة تسري على النفايات وعلى الكثير من الملفات الخدماتية والمالية التي تُفتح ثم تُغلق أو توضع في الأدراج، ولا هيئات رقابية تحاسب بل هيئات تنتظر «البركة» وتفوح منها نفسها روائح تضيّق الأنفاس.
وفي ظل «الشلل المستطير»، فلتكن مائدة الحوار بديلاً من مؤسسات إما فارغة أو معطلة، ولكن من دون أن تكون ملزمة لأي من أركانها. ليس مفاجئاً بهذا المعنى أن يحط ملف النفايات رحاله مجدداً في حوار عين التينة «الوطني» ومن ثم «الثلاثي»، يوم الإثنين المقبل، لملاقاة العقود المترجمة مع الشركتين الإنكليزية والهولندية والأثمان التي سيدفعها المكلف اللبناني.. على طريق نشر «كيس النفايات الوطني» في شتى أنحاء المعمورة!
وبعيداً عما ستؤول إليه الاتصالات بشأن جلسة الحكومة التي قرر رئيسها دعوتها رسمياً للانعقاد الخميس المقبل، علمت «السفير» أن الحكومة السيراليونية أعطت موافقتها على استقبال النفايات المصدرة من لبنان في أراضيها. وقد تبلغت الحكومة اللبنانية هذه الموافقة، ليل أمس الأول، عبر وزارة الخارجية اللبنانية في كتاب موقع من مستشار الرئيس السيراليوني وموجّه الى الشركة الهولندية التي ستتولى الترحيل.
وقد اشترطت الحكومة السيراليونية في الكتاب الموجّه للشركة الهولندية ألا تحوي هذه النفايات أية مواد سامة، كما أن الموافقة تعتبر مبدئية ولا تصبح نهائية إلا بعد موافقة رئيس سيراليون والحكومة السيراليونية.
وفيما لم يتداول الإعلام السيراليوني موضوع استيراد النفايات اللبنانية حتى الآن، قالت مصادر اغترابية لـ«السفير» إن رئيس مجلس النواب نبيه بري تبلغ الأمر، وقد أبدى تخوفه من أن ينعكس هذا الامر سلباً على الجالية اللبنانية في حال حصل أي إشكال مستقبلي بين البلدين على خلفية هذا الملف.
وبغض النظر عن كل الكلام الذي قيل حول هوية الشركات الأجنبية وعدم شفافية المناقصات وطرق التلزيم ولا أخلاقية خيار الترحيل، بعد أن رفضت المناطق اللبنانية استقبال نفايات بعضها البعض، تمعن السلطة السياسية في التعامل مع ملف النفايات بالسرية أو التورية. وحده مجلس الإنماء والإعمار هو المخول الإطلاع على العقد الموقع مع الشركتين، علماً أن الوزارات المعنية لم تحصل على نصه بعد. والمجلس نفسه، يصدف أن يتأخر كثيراً في ترجمته، متخطياً الموعد المقرر للتوقيع. تصطدم عشرات الأسئلة بحائط غياب الأجوبة، علماً أن المشكلة تطال كل لبناني، صغيراً كان أو كبيراً. والأدهى أن معظم وزراء الحكومة، ويفترض أنهم في موقع المسؤولية، لا تقل أسئلتهم عن أسئلة الناس.
الكل تخطى اعتراضاته على «العقد المهرب». لم يعد أحد يسأل كيف تم اختيار الشركتين أو لماذا لم تجر مناقصة وفق الأصول، أو من هم مسؤولو الشركتين ولماذا لم يظهر أحد منهم بعد، ومن هم أصحابها، وكيف صار لهم وكلاء أو عملاء لبنانيون؟ وما هي حقيقة «قرف» أحد أصحاب الشركة الإنكليزية من عروض السمسرة التي تلقاها ويتلقاها من لبنانيين؟ وإلى أي مدى تبدو طلبات التدقيق بحسابات الشركتين واقعية، في الوقت الذي تؤكد مصادر مصرفية أن الطلب طال شخصية واحدة فقط؟ ثم، هل يعقل أن يكون همّ الحكومة الوحيد هو إخفاء الكلفة الحقيقية للتصدير؟
لم يعد ذلك مهماً. صارت الأسئلة تتمحور حول التنفيذ: متى يتم توقيع العقد؟ أين البواخر التي ستقل النفايات؟ متى يصبح لبنان جاهزاً لتوضيب النفايات ونقلها؟ ما هي البلدان المستقبلة؟ من سيتولى الشحن بالشاحنات ومن يتولى الفرز والتوضيب ومن يتابع المعاملات، وهل حصلت الحكومة أو الشركات على التصاريح اللازمة لنقل النفايات عبر البحر؟.. والأهم متى التنفيذ، ومتى تُرفع النفايات من الشوارع، وكيف سيتم التعامل مع النفايات التي جُمعت ما دام أنها لن تحظى «بشرف» السفر إلى الخارج، على ما أعلن الوزير أكرم شهيب؟
في هذا السياق، يوضح شهيب لـ «السفير» أن مجلس الإنماء والإعمار أنهى ترجمة العقود من العربية إلى الإنكليزية، أسوة بما يحصل مع توقيع كل العقود الخارجية، مشيراً الى أن التوقيع الأولي صار أمراً واقعاً بعدما وقعه المجلس والشركتان، وبعدما دفعت الشركتان الكفالة المطلوبة (2.5 مليون دولار لكل شركة). أما المرحلة الثانية، أي توقيع العقد النهائي، فتنتظر استلام الموافقات الرسمية من الدول المعنية، وهو ما حصل فعلاً بالنسبة للشركة الهولندية.
ويوضح شهيب أن بدء العمل، سيسبقه تحضير ألفي مستوعب سعة عشرين قدماً لتحميل النفايات إلى المرفأ، وتحضير الرصيف المخصص لاستقبال النفايات ورفعها إلى البواخر، وتجهيز معملي الفرز في الكرنتينا والعمروسية. كما أعلن أن العقد ينص على أن المواد القابلة لإعادة التدوير، والتي تقدر نسبتها بنحو 14 في المئة، ستبقى ملكيتها للدولة، بما يؤدي إلى عدم تضرر الشركات اللبنانية التي تعمل في مجال إعادة التدوير.
كثر يشككون بقدرة الشركات على الالتزام بالمعايير الدولية المتعلقة بتصدير النفايات، وتحديداً اتفاقية «بازل»، وهو ما يزيد الخوف من تعويضات قد تدفعها الدولة اللبنانية ولو بعد حين. لكن الوزير شهيب يؤكد، في المقابل، أن العقد يتضمن أربع نقاط أساسية «تحمينا ليوم القيامة»، مطمئناً إلى أن النفايات اللبنانية لا تحتوي، في الأساس، على مواد سامة أو صناعية. كما يشير إلى أن النفايات السامة التي تنتجها المستشفيات والمصانع يتم تصديرها إلى الخارج منذ زمن وليست جزءاً من النفايات اللبنانية.
يشرح شهيب أن العقد يضمن إيصال النفايات إلى وجهتها الرئيسية، من خلال البيان الجمركي الذي يفترض ملؤه في المرفأ، ويتضمن وزن السلعة وسعرها ومواصفاتها، والذي يجب أن يوقّع عليه المرفأ في الوجهة النهائية، قبل أن يعاد إلى السلطة اللبنانية، التي تدفع عندها مستحقات الشركتين.
القضية الأبرز تبقى في كيفية التعامل مع أزمة النفايات المتراكمة في الشوارع وتحت الجسور وفي الأودية أو تلك المطمورة عشوائياً. وبالرغم من أن التقديرات الرسمية تشير إلى أن الكميات لا تصل إلى ما يقارب 200 ألف طن كما يتردد، إلا أنه يبدو جلياً أن جزءاً كبيراً من هذه النفايات سينتظر الحل النهائي. وإلى ذلك الحين، فإن أقصى ما سيتحقق هو توضيب النفايات في بالات خاصة، من خلال اعتماد تقنية «موبايل بيلنغ» التي يتفاوض مجلس الإنماء والإعمار مع أكثر من شركة لتأمينها.
وإذا كانت بدائل الترحيل ما تزال معدومة حتى الآن، فإن ثمة من يتخوف من أن يتحول الاتفاق بين الرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط على الترحيل إلى اتفاق على العودة إلى خيار الطمر في مطمري الناعمة وسرار، بحيث تكلف إحدى الشركتين بالأمر، من خلال الاستفادة من معدات وعمال «سوكلين». هنا، يجزم شهيب أن فتح مطمر الناعمة لم يعد ممكناً، من دون أن يستبعد احتمال عرقلة الترحيل، مبدياً اعتقاده أنه لو كان هنالك عقل هادئ لما أفشل الحل السابق.
وإذ يقر وزير الزراعة أن حل الترحيل فيه شيء من الجنون، يبدي اعتقاده بأنه صار خيار أبغض الحلال. لذلك، يرى أن إفشاله، سيعني أمراً من اثنين «إما أن تأكلنا النفايات أو أن نأكلها»، إلى حين العودة مجدداً الى العمل على مسألة المناقصات.