صدرت عن «وحدة الدراسات المستقبلية» في مكتبة الإسكندرية دراسة عنوانها «إشكالية الهوية القومية في إيران» كتبها عَلَم صالح وجيمس رول وترجمها محمد العربي. يرى الباحثان أن إيران دولة متعددة الإثنيات، وهي وجدت صعوبة كبيرة في إدراج الهويات المتعددة في الخطابات السائدة، خصوصاً الفارسية المهيمنة. وترى الدراسة أن إيران المستقرة حالياً ستضطر إلى أن تستوعب اختلاف هذه الهويات وأن تبحث عن المشترك بينها، غير أن هذا الاجتهاد سيواجه بالفرس، المجموعة المهيمنة عددياً وثقافياً التي تتصارع مع مفهومها الخاص عن الهوية، وهو مفهوم متحوِّل حتى يومنا هذا. هنا تبرز إشكالية التوفيق بين رغبات الثقافة الفارسية المهيمنة وحقيقة الدولة المتعددة الإثنيات والباحثة عن هوية إيرانية وطنية جامعة. يؤدي هذا الوضع إلى توتر داخل إيران على نحو متزايد، في الوقت الذي سقط الخطاب الإسلامي المثالي ببروز الطابع الفارسي للدولة. وعليه جرى التعامل مع مشكلات الإثنيات بطريقة أمنية، خصوصاً بعدما ولّد سقوط خطابات الثورة الإيرانية لدى هذه الإثنيات مشاكل غير منظورة.
ويعود تعقّد الهوية الوطنية الإيرانية في جزءٍ منه إلى إدماج العديد من الإثنيات واللغات والطوائف والأديان في الدولة الحديثة. غير أن فيروز كاشاني ثابت يشير إلى أن الفريد في الهوية الوطنية الإيرانية هو أن التأكيدات المتفاوتة على التعبيرات المتكاملة ولكن المتنافسة للقومية حوّلت سياسة إيران بطرق راديكالية. لم تكن الهوية الإيرانية متجانسة بل كانت دائماً متنافرة في العديد من اللحظات التاريخية، على نحو أدى إلى تحولات حادة، ليس فقط في مفاهيم النظام ولكن أيضاً في مفاهيم الهوية الوطنية.
وعلى مدار القرن العشرين أدى الوضع الدائم للخطابات الإسلامية إلى جانب تلك القومية، إلى تناقض في فهم إيران لذاتها. وجزء من أسباب التناقض أن الخطابات القومية بُنيت على أساس من تمجيد التراث ما قبل الإسلامي الذي جرى اعتباره المصدر الأصيل للهوية الإيرانية، وهو يربط فكرة إيران بمساحة معينة وبشعور معين عن الذات الجمعية والعظمة السابقة. لقد تم تبني هذا الخطاب في الحقبة البهلوية، مع الاستخدام المكثف للماضي التليد الذي لم يستخدم فقط لتعزيز هيبة النظام الملكي ولكن أيضاً لإعادة تعزيز الشعور بالقومية الإيرانية، وقد اشتملت هذه العملية أحياناً على تبني مشاعر معادية للإسلام و «معادية للآخر»، في محاولة لتأسيس هوية الشعب على الثقافة واللغة الفارسيتين، باعتبارهما التجسيد الحديث للماضي الإيراني القديم والمجيد.
يبدو الخطاب التاريخي نقيضاً حاداً للخطاب الإسلامي الخميني، والذي سعى بالضرورة إلى النأي عن شرعنة الخطابات والهوية القائمة على أساس قومي وإلى الذهاب بعيداً بقدر الإمكان، ليس فقط نحو إعادة فرض الخطاب المؤيد للإسلام، ولكن بدلاً من هذا إلى اتخاذ موقف معادٍ للقومية مستخدماً الرؤية الدوغمائية للأمة، بهدف تجاوز الدولة وإيران نحو الدعوة إلى «رسالة عالمية وحكم إسلامي واسع». واعتبر الخميني الروابط القومية منتجات للفكر الغربي الذي كان أداة لتقويض «وحدة الإسلام». وبالتالي، وبعد العام 1979 ظهر الكشف الأكثر وضوحاً عن التوتُّرات الدفينة في قلب الهوية الفارسية، التي كان لها التأثير الأكبر في الهوية الإيرانية. لقد تفاقمت القطيعة مع هوية النظام الملكي مع بروز أيديولوجيا النظام الإسلامي الجديد، والتي لم تتجذّر في الإسلام الشيعي فحسب إنما بالمفهوم العالمي للأمة الذي يقوّض حدود الدول، معتمداً أفكار تضامن الجنوب - الجنوب، والطريق الثالث المحايد بين استقطابات الحرب الباردة.
هذه الفروق بين الهويتين، والتي ظهرت أوضح من أي وقت مضى في أعقاب الثورة، هي ما يشكل تحديّاً أمام أيديولوجيا الدولة والهوية المجتمعية. إن خلق التوتر بين الفرس وأولويات الهوية المختلفة يؤثر بدوره على المفاهيم الأوسع للهوية الإيرانية وإشكاليتها، وهو أمر له دلالاته بالنسبة الى الجمهورية الإسلامية.
ويمكن القول إن ولادة الجمهورية الإسلامية فاقمت التصدُّعات القائمة، وأن الأمل في أن تعمل الهوية الإسلامية كقوة موحّدة لكل الإيرانيين قد أخفق على نطاق واسع، وانعكس في الجدالات المحمومة حول الحكم الديني في مقابل العلمانية، وحقوق الإثنيات في مقابل الحقوق الفردية، والصراع حول معنى الحداثة بالنسبة لإيران وشعوبها، والآلية الداخلية التي تتعامل بها الجمهورية الإسلامية نفسها مع قضايا حقوق الإنسان والسياسة الخارجية.
وتعبّر إشكالية هوية إيران الوطنية عن وجود الاستمرارية والخطورة، حينما تكون هناك سرديتان تبدوان للوهلة الأولى متباعدتين ويسعى كل منهما للابتعاد عن «الآخر»، وأكثر من هذا، فإن مفهوم الإشكالية يساعدنا على تجاوز فكرة التوافق البسيط للسرديتين للمرور بحقيقة وجود أسس مشتركة انبنت عليها هاتان السرديتان، في الوقت الذي تستخدم عناصر الهوية المتماثلة، والغامضة إلى حد بعيد نتيجة الاختلافات، فإن ثنائية الاتكاء الدائم على الهوية الفارسية باعتبارها مصدر الجزء الأكبر من الهوية الوطنية الإيرانية، إلى جانب حقيقة السعي للدفاع عن الأرض في عالم واقعي مكون من الدول - الأمم، تشكل الأساسيْن المشتركين لتشكيل بنية الهوية الوطنية الإيرانية.
غير أننا نرى أيضاً أن هوية الفرس باعتبارهم المجموعة الأكبر والأكثر قوة ليست ثابتة هي الأخرى، وتعبر عن مصدري الهوية المتعارضَيْن. إنها مشكلة ذات مستويين، أولاً لأن الهوية الفارسية توفر الأساس للهوية الوطنية على وجه الخصوص، ومن دون التزام وثيق من كل الفرس بالهوية الإيرانية المشتركة، سيكون من الصعب خلق أخرى. وثانيّاً، لأن لأزمة الهوية الفارسية دوراً في أزمة الهوية الإيرانية الأوسع. وعندما حاولت الدولة خلق هوية إيرانية جامعة، وجدت أن من العسير أن تحقّق ذلك، لأن إطارها المرجعي تهيمن عليه أزمة الهوية الفارسية. وهذا أمر أكثر تعقيداً، بسبب الهويات الإثنية الأخرى التي لديها مشكلات مع المفاهيم المهيمن عليها فارسيّاً للهوية الوطنية الإيرانية.
إن قضية الهوية الوطنية الإيرانية أكثر تعقيداً لأن الباحثين عندما يناقشون هذه القضية يجدون صعوبة في التمييز بين الحدود الحالية للدولة الإيرانية، والتي تم تثبيتها بكفاءة عند هزيمة إيران في الحرب الروسية - الفارسية (1826- 1828)، وكذلك المفهوم الأوسع للتاريخ والثقافة الإيرانيين، فضلاً عن التحديد اللغوي لمجموعة اللغات الإيرانية. دفع هذا باحثين مثل ريتشارد فري Richard N. Frye إلى القول: «تشير إيران إلى كل الأراضي والشعوب التي كانت وما زالت تتحدث باللغات الإيرانية، وحيث وجدت في الماضي ثقافات إيرانية متعددة الوجوه». وبالحديث عن تأثير اللغة الفارسية والثقافة الإيرانية على الشعوب الإسلامية (بخاصة العرب)، قال فري: «لقد أكدت في مرات عدة أن شعوب وسط آسيا، سواء كانت إيرانية أو تركمانية اللسان، لها ثقافة واحدة ودين واحد وقيم وتقاليد اجتماعية. فقط اللغة وحدها هي التي تفرقهم».
هذه التفسيرات غير قابلة للتطبيق أثناء السعي إلى استكشاف الهوية الوطنية الإيرانية داخل حدود الدولة الإيرانية الحالية منذ أواخر القرن التاسع عشر، ومن الواضح أن التمييزات بين الشعوب التي تعيش داخل إيران ازدادت أهميتها على نحو متصاعد على مدار القرن العشرين، في الوقت الذي تفاقمت الانقسامات في الثقافة والرؤى والسياسة، منذ ولادة الجمهورية الإسلامية على وجه الخصوص عام 1979، وهي انقسامات داخل الإسلام بين الشيعة والسُّنّة والصوفية، مع ازدياد ارتباط الدين بالهوية الإثنية واللغوية. (نشير هنا إلى أن تصاعد قمع السُّنّة والصوفية وأشخاص مثل آية الله حسين كاظميني بروجردي الذي يطالب بالفصل بين الدين والحكومة، يعبّر عن المخاوف التي تنتاب النظام الحالي حول الأسئلة الأكبر حول الكيفية التي يجب أن تنظم بها الدولة. كما ينبغي القول إنه حتى في أوساط المؤسسة الشيعية من مراجع الاجتهاد، هناك معارضون لهم تأويلات مختلفة حول هذه الأسئلة الحرجة). إذاً، فالإشكالية هي التباعد الهوياتي بين الفرس والمجموعات الإثنية الأخرى وداخل الفرس أنفسهم.
الإسكندرية