تجلس رنا مرتبكة، على وجهها ملامح تخفي الكثير من الحيرة والقلق. القلم في يدها، يرقص الرقصة نفسها، يرسم دوائر تطيح ببعضها البعض. تنتظر دورها في قاعة المحاضرات في الجامعة بعدما طلبت الإذن لسرد شهادة حياة في ختام ورشة عمل ينكبّ فيها المشاركون على تحليل أحدث ما توصّل إليه العلماء بالنسبة الى مرض سرطان الدم. حان دورها للكلام، فاعتلت المنبر، استرقت نظرة إلى الحضور، تنهّدت، وبغصّة قالت "في قلبي جرح كبير لن يلتئم أبداً، وروحي تتعذب"...
اخذت نفسا عميقا وتابعت "قصتي تشبه قصصا يعيشها كثيرون قد تكونون منهم، وسبب وقوفي اليوم هو لأحكي وجعي فأنتم أكثر من قد يفهمني ويمنع أن يعيشه آخرون".
"قبل أشهر، شعر أخي الأكبر روني بأوجاع في المفاصل وبدأ يفقد الكثير من وزنه، لم يُعر الامر أهمية، هو المنهمك بالتحضيرات لزفافه بعد خمسة أشهر، فعزاها إلى انشغاله الشديد في إنهاء اللمسات الاخيرة على بيته الزوجي، كما انه كان يتباهى بالكيلوغرامات التي خسرها، "هيك البدلة بتطلع أحلى" على حدّ قوله. الاوجاع استمرّت شهرين وكذلك عدم اكتراثه للموضوع، إلا أنّ النزف من الأنف، اثار في نفوسنا الشكوك، فأجبرناه على زيارة طبيب العائلة. بعد الكشف عليه، لم يبدُ الطبيب مرتاحاً، لم يفرح بنحافة أخي الذي خسر في شهرين حوالى الثمانية عشر كيلوغراماً رغم أنه كان كلما التقاه نصحه باتّباع حمية غذائيّة لخسارة الوزن الزائد الذي يهددّه بأمراض كثيرة بعدما بلغ الثلاثين. طرح عليه أسئلة كثيرة، ومع كل إجابة، كان وجهه يزيد تجهّما، فطلب له فحوصات مستعجلة "للاطمئنان"، كما قال يومها.
يومان قبل صدور النتائج، كانا الأطول في حياتي... نظرات الطبيب لا تفارق ذهني، تجهّمه، خوفه وغضبه، كلّه رأيته وقرأته، اخافني كثيرا، أرعبني، فلجأت إلى الصلاة، قد أكون تأخرت... إلا أنه ملجأي الوحيد في هذه الظروف. كلّ شيء يمكن تعويضه، والتهرب منه، باستثناء "ذاك المرض"، الذي يصعب عليّ لفظ اسمه حتى اليوم. غير أن ما كنت اخشى حتى التفكير به حصل بالفعل... ففي دم أخي مرض عضال يجري في كلّ عروقه، يتمدّد منذ زمن، يسرح في جسم حبيبي الأول في الحياة بلا حسيب ولا رقيب، ولا من يردعه... حتى الأطباء بدوا عاجزين، أولئك الذين منهم نستمدّ رمقاً لنتغلّب على الأمراض، ها هم يقفون عاجزين امامنا، فماذا تكون عليه حالنا؟ حتى العلاج الكيميائي لم يعد ينفع، تأخر الوقت كثيرا! في المنزل، هدوء قاتل يخبّئ الكثير... أكاد أسمع بكاء أمي في الغرفة المجاورة، بينما والدي يكاد يقتلني.
يجلس أمام التلفزيون، مسمّراً أمامه من دون أن يشاهد شيئاً، تسأله لا يجيب، يُبحر في دنيا أخرى، في تساؤلات كثيرة، في ندم وحزن شديدين. يحبس دموعه بكلّ ما أوتي من قوّة، غير أنّ عينيه تفضحانه، يأكلهما اليأس. بالأمس، كنت أظنّ أنّ هذا المرض لا يصيب أناساً مثلنا، لا نشاهده إلا من بعيد، على التلفزيون، أو في قصص أناس لا نعرفهم. غير أنه أقرب بكثير مما ظننت، تمكّن من أخي الكبير، اخي الذي لطالما حماني وضمني بعناية، فكيف احميه انا؟ ماذا عساي أفعل؟ مرّت الأيام بسرعة، كان عذابه أقصر، إنما عذابنا اقسى. ذبل أخي بسرعة قصوى، رأيته يموت كلّ يوم، بكيته كلّ يوم، إلى أن التهمه ذاك المارد في أقلّ من شهر واحد.
بلحظة، خسرت كلّ شيء، مات أخي ومتّ أنا أيضاً". انفجرت رنا بالبكاء، وكذلك فعل الحضور، هم الذين يعايشون يوميا قصصاً مشابهة، ويعجزون في كثير من الأحيان أمام حالات متقدمّة في المرض، كما فعل الأطباء امام وضع روني.
مسحت دموعها، التقطت أنفاسها، وبصوت مرتجف تابعت "لو أدركنا مسبقاً أنّ ما يصيب أخي ليس إرهاقاً، لما كنت ميتة اليوم، لو استطعنا معالجته وإنقاذه، لما كنت ميتة اليوم، ومثلي أبي وأمي، باستثناء أخي الصغير، وكم أحسده، فهو سألني أمس، متى سأشتري له البذلة لعرس أخيه البكر، "لازم لحّق قبل ما يرجع روني من السما"، على حدّ تعبيره. أنهت رنا شهادتها، وقبل أن تغادر المنبر، توجهت إلى الحضور بالقول "سامحوني لأنّني أبكيتكم معي، دموعكم أسعدتني. هل تعرفون لماذا؟ لأنّني نجحت، نعم نجحت. ليس لديّ أخ يدعى روني، ولا احد من عائلتي يعاني من أيّ مرض.
انا طالبة أدرس التمثيل في هذه الجامعة، وأردت اختبار قدراتي وإن كنت قادرة على إقناعكم بأدائي، ويبدو أنني فعلت. شكرا لإنصاتكم". غادرت القاعة، وسط حال من الذهول. عيون مغرورقة بالدموع، زادتها الصدمة اتساعاً. هذه القصة حصلت فعلا في إحدى الجامعات في لبنان، اطلقت هذه الفتاة العنان لمخيّلتها متجاهلة مشاعر كثيرين قد يكونون مرّوا بالحالة نفسها التي ادّعتها. هي نجحت باختبار قدراتها التمثيليّة، إنّما خسرت الإنسانية بعضاً من روّادها القليلين. فيا ليت كلّ القصص المشابهة كانت مزحة ثقيلة أو اختبار اداء!