"قد يتساءل البعض، وهم على حق، لماذا يوسف مرتضى العلماني البقاعي، يتصدى للبحث في تاريخ عائلة جنوبية؟ " هذه العبارة-التساؤل تتصدر كتاب يوسف مرتضى عن آل الخليل.( كتاب صدر حديثاً عن الدار العربية للعلوم ناشرون).
هذا تساؤل البداية، لكنني بعد أن أنجزت القراءة طرحت أكثر من تساؤل، عن الكتاب وعن الكاتب وعن العائلة وعن وطن العائلات الجميل الذي كلما تطوع أحد للبذل في سبيل نهضته كان يأتي من يوظف هذا البذل لتدميره لا لبنائه. هذا ما فعله آل الخليل وسائر العائلات الاقطاعية، وهو ما فعله اليسار حين خاصم وواجه آل الخليل بالسيف والقلم والأحلام المستحيلة ،لأنهم كانوا يمثلون عينة من الاقطاع السياسي.
التساؤل الأول يتناول الحزب الشيوعي الذي تربى فيه وتحدر منه يوسف مرتضى. كيف يمكن لهذا الحزب، الذي كان بحق مدرسة تخرج منها مناضلون مستعدون للتضحية بكل شيء من غير طمع بجنة أو بمال أو بالحور العين، أن يشكل قيداً، بل لماذا يشكل قيداً على أقلام قادته؟ حصل ذلك في قمة نهوضه ويحصل اليوم في حضيض أزمته. كريم مروة أصدر كتابين فقط في ثلاثين عاماً قضاها عضواً في المكتب السياسي، لكنه، بعد خروجه الطوعي من القيادة في بداية التسعينات، صار يصدر في كل عام كتابا. هذا هو شأن غسان الرفاعي وإصداراته الفكرية، بعد أن تحرر من أعباء العمل القيادي والدوام اليومي في مكاتب الحزب، ويوسف مرتضى ودخوله بزخم إلى عالم الكتابة، بدءاً بتحرير ما يشبه المذكرات للمخضرم محسن دلول مروراً بالكتابة عن تاريخ روسيا والاتحاد السوفياتي، وصولا إلى ما يشبه كتابة التاريخ في إصداره الأخيرعن آل الخليل. أما قيادة الحزب الراهنة فليس في مقدورها أن تكتب عن غير أزمة هي فيها الضحية والجلاد في آن معاً.
لو طرح علي التساؤل الافتتاحي لكنت أضفت، و"بشفافية أيضاً"، على طريقة يوسف مرتضى، ، إن علينا نحن العلمانيين الشيوعيين، أن نرفع الظلم عن عائلات تعاملنا معها بقسوة وجفاء وكانت أكثر تسامحاً منا وأرحب صدراً وأبعد نظراً. بيار الجميل المؤسس بارك فصل المدرسين المضربين من سلك التعليم الرسمي متذرعاً بانتمائهم إلى اليسار الدولي، لكنه لم يقس عليهم بأكثر من قسوة والد على ولده، وأعادهم إلى الوظيفة وزير من وزراء حزبه. أما نحن، جيل التغيير بيساره ويمينه فقد دمرنا منازل العائلات وقتلنا أبناءها وحاولنا أن نمحو أسماءها من سجلات الوطن ومن تاريخه.
بيد أن العائلات، ومن بينها آل الخليل، لم تكتب مساهمتها في بناء الوطن بصورة موضوعية. فهي ضخمت الجانب البناء وتسترت على الجانب الهدام، إو هي لم تحسن تقويم دورها ولا النظر إليه من كل الزوايا. فهي وزعت أراضي على الفلاحين، هذا ما فعله آل الخليل في صور، ولا سيما في بلدة معركة، أو آل جنبلاط في قضاء الشوف وصولا إلى منطقة صيدا، لكن ما يغفله الكاتب، استناداً إلى "مذكرات كاظم الخليل غير المنشورة" هو تاريخ تلك الملكيات الكبيرة وطريقة الحصول عليها. ذلك أن كتب التاريخ تفيدنا أن سبل حصول الأجداد الاقطاعيين على الأراضي الواسعة (الاقطاعيات) لم تكن شريفة، بل كانت لقاء خدمات يقدمها الاقطاعي للوالي وللسلطان، على حساب الفلاحين، وأن شرط العلاقات الاقطاعية أن يملك الاقطاعي الأرض وما عليها ومن عليها. ربما اعتقدت الأجيال الجديدة من العائلات أن ذلك هو من حقوقها المكتسبة، بل ربما تكون، في نظرهم، حقوقاً ربانية لأن الملك هو لله وحده أو لمن يمثله بإرادة السلطان.
أن يكتب شيوعي عن تاريخ العائلات ينبغي أن يكون بمثابة التكفير عن ذنب. أذكر كيف تربيت على الخصومة مع الاقطاعي مالك أراضي قريتنا، وحين لم تعد ملكية الأرض معياراً وحيداً لنسج العلاقات بين البشر، تحولنا من الخصومة إلى صداقة حميمة مع أبنائه ثم مع أحفاده. وكلما التقينا بصديق من تلك العائلات، علي عادل عسيران أو علي صبري حماده أو سمير فرنجية على سبيل المثل، نستعيد في مخاطبتهم مصطلح البك، بكثير من الاحترام الحقيقي وقليل من السخرية المازحة، بينما يعيروننا بصلف تعاملنا القديم مع تاريخهم.
على أن تلك العائلات، بمن فيهم آل الخليل، لم تنخرط في بناء الوطن إلا وهي محملة بوطأة العلاقة الملتبسة بين الوطني والقومي والديني، ولهذا لم يكن انتماؤهم الوطني "صافيا"، بل عكرته علاقات تبعية مع المحيط السوري والمصري البعثي والناصري، ومع العالم المنقسم بين المعسكرين. فإذا كانت وشاية كامل الأسعد الجد قد تسببت بإعدام عبد الرحمن الخليل، فإن انحياز كاظم الخليل في مرحلة لاحقة إلى المعسكر المعادي للعروبة الناصرية كان سبباً لانحسار موقعه السياسي وتراجع دوره في منطقة صور وفي كل لبنان.
في تاريخ العائلات ما يشير إلى وقوع بعضها ضحية طغيان النهج الميليشيوي، فمنها من استهواها هذا النهج، على غرار ما فعله آل الخليل وآل الجميل وآل فرنجية وآل جنبلاط، ومنها من ترفع عنه إلى حدود الاستقالة أو الاقالة، على غرار ما حصل مع العميد ريمون إده وكامل الأسعد الابن، فآلت أمور تلك العائلات أما إلى اعتمادها النهج الميليشيوي إما إلى وقوعها ضحيته وضحية الاستتباع للقوى الخارجية.
ربما كان في خلفية رغبة السفير خليل الخليل في كتابة تاريخ العائلة، تكريم هذا التاريخ المبني على دور رائد جسدته شهادة عبد الكريم الخليل من أجل الاستقلال عن السلطنة العثمانية، لكن التكريم يبقى قاصراً عن استعادة مجد تليد. والخيبة الكبرى تتمثل في أن قوى التغيير التي رغبت في التخلص من العائلات الاقطاعية من أجل بناء لبنان جديد باتت تترحم على ماضٍ مضى، بعد أن انكشف التغيير عن كارثة البدائل الميليشيوية.