باسم الله..
يشكل غياب المطران غريغوار حداد بحدّ ذاته، وفي هذه المرحلة التي يمر بها لبنان والعالم العربي، والاسلامي والمسيحي، أعني الأزمة ذات الطابع الديني التي تجتاح مجتمعاتنا، خسارة لشخصية دينيّة مستنيرة، ويمكنني أن أقول، لشخصية عامة، رفدت الثقافة الدينية والوطنية، بنبض حضاري متقدم، مستقبلي شجاع، واجه فيه بكل بساطته ودماثته وفكره النيّر، أشرس الهجمات التي يواجهها عادةً المصلحون الكبار في مجتمعاتهم، وفي شرقنا بالذات. فهو في الظاهر، واحدٌ من رجال الدين والكنيسة، ولكنه في الجوهر، كان أوسع بكثير من هذا الإطار، مما جعله في نظر الكنيسة وأجوائها الحاضنة، من المجدّفين، وأعطيت له صفة العلمانية التي كان يفتخر بتبنيها، ولكنها أُعطيت له، بمعناها العاميّ السائد، الذي يجعل منه خارجاً على الدين وتعاليمه؛ والمفارقة هنا، أنّ الكنيسة التي أقرت بالعلمنة مرغمةً، ثم قبلت الفصل الكامل بين الدين والدولة، لم تغتفر للمطران حداد علمانيته التي كانت علمانية مؤمنة، وكان يستلهم ماهيتها وجوهرها، من مقاصد الدين نفسه، وهذا ما واجه قبله العديد من رجال الدين، مسلمين ومسيحيين، ولكنهم أمام الهجمات القاسية التي تعرضوا لها، تراجعوا عن مواقفهم، أو ذهبوا إلى عزلة من الحياة والفكر والفعالية؛ فيما المطران حداد، لم يكن يرى، في موقف الكنيسة منه، وهي التي جرّدته من مسؤولياته الدينية، ما يزحزح أصالته وفكره وعقيدته، ودعوته الدائمة والمستمرة إلى العلمانية، ولا شك في أنها علمانية مؤمنة أراد بها تصحيح ما ينطبع في أذهان الناس، عن ربط العلمانية بالإلحاد، أو التناقض مع الإيمان الديني.
اقرأ أيضًا: كيف نحرِّر الدعوة العلمانية اللبنانية من نبيِّها غريغوار حداد؟
وأنا إذ استحضر لقاءاتي معه، أعرف حجم الضغوط القاسية، التي تعرّض لها في الطريق إلى غاياته النبيلة، وإنّي كعالم مسلم، أستحضره الآن، وأنا أواجه مع بعض العلماء والمفكّرين، هذه الموجة القاسية من التعصب الديني والمذهبي، على مستوى مساحة العرب والمسلمين، وأواجه هذه النكسة والفكرة الدينية، التي ليس صحيحاً أنها محاولة للعودة، إلى مئات السنين التي سبقت، أي إلى التراث الذي أنجزه الإسلام، بل هي تشوّه الإسلام، تراثاً وديناً وعقيدة، وتشكل محاولة خطيرة للإجهاز على مبادئ النهضة الإسلامية المستنيرة، التي شهدها أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، والتي تفتح بكل أسف، مجالاً لأبشع صور الصراع، والتضاد بين أتباع مذاهب الإسلام المتعددة، وفي الوقت نفسه، تحاول أن تلغي، علاقة التفاهم والتسامح والمحبة بين الإسلام والأديان الأخرى.
من هنا، فإن حاجة حركة النهوض والتنوير في المرحلة الراهنة، تجعل من خسارة رموزها، خسارة فادحة، والمطران حداد، بسيرته وبتراثه وجاذبيته الخاصة، وتديُّنه الحقيقي، هو في نظري، أحد رموز حركة التنوير والحوار المبدع بين الأديان، وبالتالي هو، أحد الممهّدين الكبار، لقيام نهضة وطنية وعربية شاملة، باتجاه التقدم والتنمية والتجديد الحضاري. واذا كان هناك من يُعزّى بغيابه، فهو الفكر المستنير، والفكر الديني المتفوّق، على كل أشكال الانحراف والجهود. يُعزّى فيه لبنان كلّه، وحركة النهوض العربية والإسلامية والمسيحية بصورة متماثلة متساوية.