هو وَهلُ الجريمة الذي يسيطر على كلّ الخبايا. حين تنفّذ أفعالٌ إجراميّة تحاكي منطق الجنون، لا أحد ينظر في التفاصيل اللاواعية. ولو أن العاملات الأجنبيات المنزليّات ينفّذن اعتداءاتهنّ من خلال رصاصةٍ واحدة تطلق من مسدّسٍ مثلًا، لاختلف تحليل الواقعة. إلّا أن لجوءهن الى ممارساتٍ غريبة الطابع عندما يرتكبن الجرائم، يطرح علامات استفهامٍ حول أسلوب التنفيذ المستغرب. بعضهن حاولن إخفاء معالم ما اقترفت أياديهن الملطّخة بالدماء.والبعض الآخر شرع في الاعتراف والمفاخرة. أخريات انتقمن من أنفسهن، فكتبن الرسائل لكلّ من يرغب في سماعها، كتعبيرٍ عن سرّ الخيبة أو الاستسلام المفجع. في كلّ هذه المقاربات ألغازٌ محيّرة.
لماذا يستعرضن بهذه الطرائق المتناقضة؟ ما هو ذلك اللغز المحيّر الذي لم تنكشف قطبته المخفيّة حتّى اليوم؟ ولماذا يحتكم البعض من الجمهور اللبنانيّ الى تحميل العاملات الأجنبيات قبح ما فعلته واحدة منهنّ ويشمت في الجمعيّات التي تدعمهّن؟ مزهريّةٌ ورسالةٌ ورقصٌ بهلوانيّ البداية المخيفة لممارسات العاملات الأجنبيات الإجراميّة تفاقمت منذ نحو سنةٍ من اليوم، حين قتلت العاملة الأثيوبيّة الطفلة سيلين راكان من طريق الظلمة. ونقصد بالظلمة خفت الأنوار، الذي حاولت من خلاله العاملة طمس حقيقة ما، واعتقد كثيرون حينها أن السر لا يكمن في الجريمة نفسها، بل في ما كانت تخفيه هذه الأخيرة في غرفتها. أمّا في رأس النبع، فرمت عاملة اجنبية أخرى نفسها من شباك الطبقة التاسعة، الأمر الذي يعتبر جريمةً، حتى وإن كانت قد ارتكبتها بحقّ نفسها. "نيمالي شنديميا" العاملة من التبعيّة السريلنكيّة عمدت الى شنق نفسها في جزين عام 2008، وتركت خلفها رسالةً على شاكلة سرّ: "انفصال خطيبها عنها والزواج من أخرى". وفي صيدا، انتشر شريط فيديو أخيراً يوثّق عمليّة تعذيب طفلٍ رضيع على يد العاملة التي كانت تلعب به كالطابة وتراقصه كالبهلوان.
أمّا آخر فصول الجرائم الشنعاء، فأصاب عين نجم التي ودّعت نتالي فرحات بغصّة، بعدما قضت على يد العاملة الفيليبينيّة التي استخدمت "المزهريّة" لتنفيذ الجريمة. وإذا جمعنا أدوات المرتكبات كلّها، نستطلع أن القاسم المشترك بينها يكمن في الحدّة في التعبير الإجراميّ. وفي هذا المنطق لجوءٌ الى التعبير عن الذات بصخب: "أنا موجود". الوجوديّة هنا سلبيّة، لكنّها أساس اللغز المحيّر وسلوكٌ واضح عن الرغبة في التعبير وتحقيق فعلٍ إراديّ لم تتوافر لهنّ فرصة بلورته بطريقةٍ عاديّة فاخترن انهاء مستقبلهن في سبيل تحقيقه بشتّى الوسائل. لم تشعر العاملة الفيليبينيّة بالذنب بعد قتل المغدورة، لكّنها بادرت بالاتصال الهاتفيّ. وكذلك فعلت قاتلة سيلين راكان حين همّت في تنظيف المنزل بعد فعلتها وكأن شيئًا لم يكن.
إلّا أن اللغز الذي يعتري الجرائم التي ترتكب من قبل العاملات، يكمن في سعي بعضهنّ الى تضليل التحقيق من خلال استبدال إفاداتهنّ بين ليلةٍ وضحاها. فبين الزعم أن تنفيذ الجريمة جاء بتحريضٍ خارجيّ قاده طرفٌ ثالث، ونفي تلك المعطيات لاحقًا، أكثر من مجرّد لغز يلفّ القضيّة. وقد يكون لهذا الغموض سبب وجيه ولكن هذه الفرضية غير مؤكّدة. وفي حال عانت العاملة من اضطراب نفسيّ، فمن المحتّم حينها أن تعيش في ضياعٍ تام ما قد يجعل من أقاويلها محض تلفيقات. ولعلّ تسريب الفيديو المصوّر للعاملة التي تتقاذف الطفل كالبهلوان جاء وفق نتيجة صريحةٍ منها في تعميمه لأنها سمحت أصلًا في تصويره.
لغزان اثنان: نظام الكفالة ومكان السكن "لا يمكن النظر إلى العاملة المنزليّة وربّة العمل سواسية في إمكان تعرّض كلٍّ منهما للعنف من الأخرى. وقانون العمل يحمي في هذا المجال الطرف الأضعف الذي يتمثّل بشخص العاملة الأجنبية التي تعتبر امرأة مهاجرة تعيش في إطارٍ ضيّق ما يزيد نسبة تعرّضها للانتهاكات" بهذه العبارات تختصر المسؤولة الإعلاميّة في جمعيّة "كفى" مايا عمّار العنصر الأضعف في العلاقة بين ربّة المنزل والعاملة. وعن اللغز الذي يطاول جميع أنواع الجرائم التي تحصل في هذا السياق، تعتبر أن "ما يحصل لا يعني أن أرباب العمل غير جيّدين، بل يدلّ على جور نظام الكفالة الذي يقيّد العاملة ويصوّرها كسجينة داخل المنزل".
وعن تكرار عمليّات الاعتداء التي تشهدها ربّات المنازل في الآونة الأخيرة من العاملات، تشير الى أن "المرأة تعتبر في هذه الحالة عرضةً للعنف أو لردّة فعل على شكل جريمة غير مبرّرة. وفي هذه الحالة تعتبر العاملة مجرمة ولا يوجد أي تفسير يبرّر ما قامت به. إلّا أن الخطأ يكمن في تعميم فكرة أن كلّ عاملة أجنبيّة هي مجرمة". وتتابع حول اللّغز العام الثاني الذي يدفع المستخدمة الى ارتكاب جريمة: "الدولة توقعنا في فخّ لوم العاملة على أفعالها الإجراميّة، لكنّها لا تطرح موضوع سكنها. والسؤال الذي يطرح في هذا المجال: لماذا يتوجّب على العاملة العيش في منزل مستخدميها؟ لماذا لا يتمّ فصل مكان السكن في إطار وظيفة عادية تلتزم به العاملة بدوام وظيفيّ حتى الساعة الخامسة بعد الظهر بدلًا من العيش مع مستخدميها في منزلٍ واحد؟". "ما هي الأسباب التي تؤثّر بشكلٍ أساسي في حالتها النفسيّة؟".
تجيب: "يتمحور السؤال حول نوعيّة العمل الذي يؤثّر عليها. هل هي حقًّا مخوّلة لرعاية الأطفال والعجزة على حدٍّ سواء؟ هنا تكمن مسؤولية الدولة التي لا تحدّد المهام الخاصّة المتوجّب على المستخدمة القيام بها دون سواها وهي بالتأكيد لن تستطيع القيام بجميع الأعمال". "لماذا يعمّم البعض اتهام العاملات بالإجرام؟" تقول: "هول الجريمة الكبير إضافةً الى انحياز اللبنانيين لمصالحهم الخاصّة، يؤدّي بالمواطن دائمًا الى لوم العاملة الأجنبية". وعن الاصطدام المباشر الذي يحصل دائمًا بين العاملة وربّة المنزل دون دخول الرجل في تفاصيل النزاع تقول: "الرجل لا يعتبر نفسه معنيّاً بالمهام المنزليّة بقدر المرأة. هم لا يحتكون كثيرًا بالعاملات. بينما تشارك المرأة مع عاملتها المهام نفسها". منطق الجرائم العالميّة "الى أي مدى يؤدّي نظام عمل العاملة المنزليّة في لبنان بها الى ارتكاب جرائم؟"، سؤالٌ طرحناه على الاختصاصيّة في علم النفس التربوي الدكتورة مي مارون التي ترى أن "نظام الكفالة يدفع بعضهن بالتأكيد الى الجريمة، لأنه يقيّد حريّة العاملة ويشعرها أنها مستعبدة بغضّ النظر عن تعامل مستخدميها معها. وهذا ما يحملها نحو اليأس والتصرفات الشعواء ويؤثّر تلقائيًّا في وضعها النفسي وينمّي روحها العدائيّة". وتغوص في منطق الجرائم العالميّة، وتعطي بعدًا لما يحصل في لبنان بما يمكن أن يحصل لأي عاملة تعيش في إطار نظام عمل جائر. وتستفيض حول اختلاف أنماط العيش بين لبنان والبلدان التي تستقدم منها العاملات: "طعامهن مختلف، ولباسهن مختلف، ولا يدركن لغتنا الأم لذلك من الصعب أن يتعايشن معنا في هذا الإطار".
وكاد الحل يبصر النور؟ رغم المساعي الحثيثة التي قامت بها جهات عديدة بهدف إقرار قانون لتنظيم العلاقة بين العمّال الأجانب وأرباب العمل إلّا أن تلك الجهود لم تتبلور حتى اللحظة. وكان من أبرز الناشطين في هذا السياق، الوزير السابق شربل نحّاس الذي يروي في حديثٍ لـ"النهار" تفاصيل المعاهدة التي كادت تنظّم أطر العمل بين الأرباب والعاملات الأجنبيّات عام 2011 الّا أنها لم تبصر النور: "تلك المعاهدة عبارة عن نصّ اتفاق بين الفيلبين ولبنان طرحت خلالها بنود عديدة لتنظيم علاقات العمل بين البلدين، ومنها تنظيم وحصر مهام مكاتب الاستخدام ومسؤوليّاتها وتحديد ساعات العمل ووضع نظام للمراجعة وتعديل العقود وتحديد ساعات العمل. إضافةً الى منع حجز الأوراق الثبوتيّة الخاصّة بالعاملة من قبل رئيسها وعدم إرغامها على السكن في منزله إذا لم تحبّذ ذلك.
ويعتبر أن الحكومة طلبت منه التوقيع على مراسيم المعاهدة قبل مناقشتها في مجلس الوزراء، في حين أنها لم توافق عليها ولم تقرّها. وعن الإيجابيّات التي تحملها المعاهدة في حال طبّقت يقول: "هي ترعى العلاقة بين العاملة وأصحاب المنزل بطريقة طبيعيّة حيث تأخذ بعدًا انسانيًّا، كونها تغيّر مفهوم العمالة الأجنبيّة في لبنان وتجعلها علاقة عمل عاديّة من دون أن تصبح العاملة جزءًا من العائلة، لأن ذلك سيؤدّي حتمًا الى تكوين علاقة معقّدة بين الطرفين في ظلّ أنظمة ملتبسة". كل الاحتمالات تغوص في مضمونٍ واحد. نظام الكفالة غير عادل، ولكن السؤال الذي يطرح في هذا السياق: "ما هو البديل؟" وهل من المنطق أن تعيش العاملة وحدها في بلدٍ لا تعرف عنه شيئًا؟ هي تأتي من عالمٍ مختلف، وحين تصل تتمعّن بالبشر في لبنان وكأنهم مخلوقات غريبة. البعض يطرح فكرة حصر اهتمامات المرأة اللبنانيّة بالشؤون المنزلية. هل هذا الطرح واقعيّ؟ لعلّ الحلّ الأبرز يكمن في تسويةٍ مشتركة، تضمن لأرباب المنازل حقوقهم وتؤمّن عيشةً لائقة للعاملة. أما جرائم القتل التي تقترفها العاملات، فهي مهما أخفت خلفها أسراراً، تبقى تعبيرًا وحشيًّا عن إنسانٍ ما عاد للأنس فيه ملجأ... وتعبيرًا عن مجرمٍة نست للحظةٍ أنها بفعلتها الشنيعة تتحوّل الى مستعبدةٍ لنفسها.
النهار