يُطوى العام 2015 اللبنانيّ على خبرٍ محزن هو رحيل المطران غريغوار حدّاد. فالمطران الذي ارتبط اسمه بالأفعال الإنسانيّة كما بتأويلٍ للدين يسمو به عن السويّة الحَرفيّة، واتّصلت سيرته بهموم الفقراء والضعفاء، وبالتحرّكات المدنيّة والعلمانيّة، كان من المواليد الطبيعيّين للبنان ما قبل الحرب.
ذاك أنّه كان من الممكن آنذاك أن يظهر رجل دين يخالف الطائفيّة، بل يخالف ما يُفترض أنّه الموقف السياسيّ والمصلحيّ لطائفته وقياداتها. ومن هذا القبيل لم يتردّد نقّاد غريغوار حدّاد، من موقع الولاء للسائد والمألوف، في أن يسمّوه "المطران الأحمر". فعندهم، على جاري أحد التقاليد الموغلة في محافظتها، يكون كلّ مختلف شيوعيّاً. ويومذاك، في زمن الحرب الباردة وثقافتها السياسيّة، كثيراً ما كانت الشيوعيّة تُستخدم كما تُستخدم الفزّاعات.
وحدّاد، بالطبع، لم يكن شيوعيّاً. لكنّه كان ديمقراطيّاً بالعمق. ومع أنّه رجل دين، فإنّ سلوكه كان ينهض على افتراض ضمنيّ لوجود مجتمع حديث وعلاقات حديثة تتيح التغيير والإصلاح، ولا يُستخدم فيها الدين والطائفة قاطرةً للانتماء السياسيّ، ناهيك عن التجارة السياسيّة.
وعملاً بذاك التصوّر الحديث الذي يتّسع للفعل الذاتيّ، ارتسم الناس كائنات إنسانيّة أوّلاً، ثمّ مواطنين لا تقوم الأديان والطوائف فاصلاً بين واحدهم والآخر.
هكذا لم يكن بلا دلالة أن تزخر حياة غريغوار حدّاد بمحاولات التاثير في الواقع الذي جعلته الطائفيّة كجلمود صخر عاصٍ على التغيير.
وقد يقال بحقّ، حيال هذه الثنائيّة المتعارضة، إنّ علمانيّة المطران حدّاد كانت بريئة وقليلة التركيب قياساً بخبث الواقع الطائفيّ ومدى التماسك في تركيبه. لكنّ تلك البراءة كانت ممكنة في ذاك اللبنان الذي تداخلت الخيوط فيه وأقام كثيرون في بيئات التقاطع بين طوائفه وجماعاته، كما بين أفكاره.
وفي أغلب الظنّ كان مصدر تلك البراءة أنّ الأفكار، التي يُفترض أن تنطوي على صواب وتقدّم، لا تهبط هبوطاً بسيطاً على تضاريس الواقع والتواءاته، وخصوصاً على محرّكي تلك الالتواءات والمستفيدين منها. وهذا ناهيك عن أنّ هذا البلد تقلّبت عليه جماعات "علمانيّة" تملك من خبث الطائفيّة أكثر كثيراً ممّا تملك من براءة غريغوار حدّاد. وبـ"علمانيّة" كهذه نشأ واستتر كثير من الطائفيّة المداورة التي عبّرت عنها قوى وأحزاب شهيرة.
وفي الحالات جميعاً فإنّ غريغوار حدّاد لم يعد ممكناً اليوم، حيث اتّسعت رقعة الصفاء الطائفيّ واستولت على الأفق، فيما غدت المسافة ضئيلة جدّاً بين رجال الدين (ورجال النُخب على عمومها) ووقودهم الطائفيّ. أمّا التغيير الذي يتأتّى عن جهد وسعي ذاتيّين فبات شيئاً يتراوح بين الحلم والكابوس.