داعمو النظام المصري يرون أن الفساد الموجود بقايا أنظمة سابقة ومخلفات ذمم ضامرة ونتيجة ضمائر ميتة. ومعارضو النظام يعتبرون الفساد الحالي انعكاساً لفشل الدولة في الإدارة وغض بصر المسؤولين عن التطهير وموافقة ضمنية من الرئاسة على استمرار سياسة «فتح الدرج» للصغار ومنهج «رسوم تيسير» للكبار. أما كارهو النظام فيفسرون الفساد الدائر بأنه غضب رباني وعقاب من الله ونذير شؤم على البلاد والعباد بسبب الانقلاب على من أرسلتهم السماء للقضاء على الفساد.
ويبقى المصريون من المواطنين والمواطنات الذين يعلمون علم اليقين ويدركون إدراك الخبير أن الفساد يتحكم في العباد وأن ما ضرب البلاد من مشاكل ليس إلا نتيجة طبيعية لانتشار الفساد رأسياً وأفقياً وتمكنه من كل كبيرة وصغيرة في الحياة اليومية.
ويومياً تحفل صفحات الجرائد وفقرات البرامج بتشكيلة كبيرة من أحدث ما وصل إليه عالم الرُشى وما توصل إليه الابتكار في شراء الذمم والاتجار بالضمائر. ويكاد يجلجل صدى صوت الأكف التي تضرب بعضها ببعض تأففاً وتذمراً وتبرماً في سماء المحروسة رفضاً لاستمراء الرشاوي واستمرار الفساد بعد ثورتين وثلاثة رؤساء ومجموعة من المراحل الانتقالية في خمسة أعوام فقط لا غير.
الفساد في العام 2015 وحده كلّف مصر ما يزيد على 600 بليون جنيه مصري، بحسب تقديرات الجهاز المركزي للمحاسبات، وهو الجهاز المستقل ذي الشخصية الاعتبارية العامة والتابع لرئيس الجمهورية مباشرة، والمراقب لأموال الدولة والشخصيات العامة. هذه الكلفة التي أعلنها رئيس الجهاز هشام جنينة جعلت كثيرين يضربون أخماساً في أسداس غير قادرين على حساب الكلفة التي تساوي نحو ثلاثة أرباع موازنة مصر.
قليلون هم من ركزوا في تفاصيل التصريح الخالي من التفاصيل، حيث كلام عن تقارير رقابية تروح وتجيء بين الجهاز ومسؤولي الجهات الحكومية المراقب عليها لرصد التجاوزات وسرد المخالفات وتدوين التوصيات، ثم إرسالها إلى المؤسسات المعنية، انتظاراً لرفع التقارير النهائية إلى الرئيس في نهاية العام «لاتخاذ ما يلزم في حق المخالفين والتصدي للفساد بقدر المتاح من القوانين».
ضخامة المبلغ المعلن عنه وفداحته بالإضافة إلى ضبابية التصريح وتوقيت التلويح أضفت ظلالاً استقطابية وفرضت قيوداً استقرائية، فسرح الناس بخيالهم إما في محاولة لتخيل نوع الفساد الذي يهدر هذه الثروة، والمفسدين الذين يستهلكون هذه الأموال، والفاسدين الذي ييسرون هذه الجريمة، فيما اختار آخرون اعتناق نظرية التشكيك والارتكان إلى زاوية التخوين، لا سيما أن كثيراً يقال عن انتماءات رئيس الجهاز المُعيّن من قبل الرئيس السابق محمد مرسي، وتلويحاته بأن الجهاز لم يؤد عمله في الرقابة على مؤسسة الرئاسة عقب انتهاء عهد «الإخوان»، «لتأخر الحصول على تصاريح من الجهات الأمنية»، وهو ما فسره بعضهم بأنه إضافة لتمهيد الأرض لأجواء ثورية قبل حلول الذكرى الخامسة للثورة.
ثورة كانون الثاني (يناير) 2011 التي انتهت بعد 18 يوماً بأوراق طبعها المصريون وعلقوها على سياراتهم وأبواب بيوتهم وجدران مكاتبهم تحوي تعهدات بالتوقف عن دفع رُشى لأمين الشرطة وموظف الحكومة ومسؤول المحليات ومفتشي التموين ومأموري الضرائب، لم تترك الكثير من الأثر في هذا الشأن بعد مرور خمس سنوات. وبينما المصريون يحاولون فك طلاسم الـ600 بليون فاتورة الفساد في الدوائر الحكومية، بحسب تقدير الجهاز المركزي للمحاسبات، خرج عليهم تقرير هدأ نسبياً من روعهم في شأن البلايين وواجههم بتقاعسهم في ما يختص بعشرات الجنيهات التي تدفعها ملايين نظير «شاي» في مكتب التوثيق أو «حلاوة» في مديرية الأوقاف أو «إكرامية» في الجمارك أو «علاقات عامة» في الإسكان.
فقد صنف التقرير السنوي الصادر عن «المركز العربي للنزاهة والشفافية» الرشوة والفساد إلى فئتين، فئة «الناس اللي فوق» و «الناس اللي تحت». ففي الأولى تصدرت هيئة الاستثمار مكانة الصدارة تليها وزارات النقل والصحة ثم الإسكان والاستثمار والداخلية تليها هيئة التنمية السياحية وبعدها الاتصالات والبترول تليهما هيئة الأوقاف، وذلك في قائمة كبار الموظفين الأكثر رشوة.
وفي فئة صغار الموظفين الأكثر رشوة تزاحم موظفو التوثيق والإدارات التعليمية والزراعية والمدن الجديدة والإسكان والأحياء والجمارك والمحافظات والتموين على القائمة. لكن الأكثر طرافة كان حصول موظفي الجهاز المركزي للمحاسبات، وهو الجهة المنوط بها الرقابة على أموال الدولة وأوجه الفساد فيها، على المكانة الثانية ضمن أكثر صغار الموظفين قبولاً للرشى، وذلك بحسب ما ورد في تقرير المركز.
أما المقياس الشعبي فما زال يصر على أن الرُشى الصغيرة من خمسة جنيهات لأمين الشرطة أو عشرة للخفير أو عشرين للموظف الغلبان ليست إلا «حلاوة» إنجاز الطلب أو «إكرامية» الهروب من المحاسبة أو «شاي» غض الطرف عن المخالفة. أما الـ600 بليون فتتأرجح شعبياً بين «الحرمانية التامة» أو «اللامعقولية الكاملة» أو «تصفية حسابات للكبار لا شأن لنا بها».