تنتظر الحاجّة انتصار الشرقاوي (أم هاشم) ومعها عشرة من أبنائها ومعهم عشرات الأحفاد، بفارغ الصبر رؤية نجلها سعد محمد ابرهيم (47 عاماً) الذي أمضى 19 عاماً مسجوناً في فلوريدا في الولايات المتحدة، بعدما دين بخطف طائرة DC-10 التابعة لخطوط ايبيريا الجوية الإسبانية في العام 1996، لا لسبب "انتقامي" او "إرهابي"، وإنما لأنه أراد التخلص من معاناة لجوئه التي تجرّعها مرارةً أباً عن جد، منذ نكبة فلسطين العام 1948 حيث وُلد لاجئاً في مخيم عين الحلوة في صيدا (جنوب لبنان)، وبلا حقوق مدنية او اجتماعية او انسانية في لبنان.
«بيت العائلة» الكائن في الطبقة الأولى في حي "الحاج حافظ" في صيدا، يعجّ بالإخوة والأهل والأقارب والجيران، بانتظار "الساعة الصفر" لوصول سعد ابرهيم، بعدما رحّلته "دائرة الهجرة" في الولايات المتحدة إلى بيروت، فأوقفه الامن العام اللبناني لإجراء "تحقيق أمني"، على أمل ان يطلق سراحه قريباً، فيما هواتف الإخوة لا تتوقف عن الرنين، تسأل عن مصيره ووقت وصوله، لاحتضانه مجدداً وإبلاغه بالكثير مما فاته طوال 19 عاماً: بدءاً من وفاة والده الحاج محمد ابرهيم (ابو هاشم) قبل سبعة أعوام وصولاً الى غرق شقيقته إيمان ونجليها احمد ومكرم قبل اشهر قليلة في رحلة لجوء مريرة من ليبيا الى ايطاليا والنروج، تشابه الى حد بعيد ما أراد هو فعله قبل عقود.
تروي الوالدة أم هاشم لـ"الراي" وفي عينيْها دمعة الحزن وعلى شفتيها فرح اللقاء "ان سعد كان شاباً مندفعاً، ضاقت به سبل الحياة في مدينة صيدا، ولم يكمل دراسته بسبب الظروف الصعبة، فعمل حلاقاً في تعمير عين الحلوة ولكنه كان يشعر باليأس والإحباط مع ضيق العيش، فقرر مغادرة لبنان، الى أراضي الله الواسعة طلباً للهجرة واللجوء"، قبل أن تضيف بحرْقة "لقد نزل علينا خبر خطفه طائرة اسبانية والتوجه الى ميامي في فلوريدا كالصاعقة، لم نصحُ من تداعياتها بعد رغم مرور كل تلك الأعوام الطويلة".
"الصاعقة" الاولى للوالدة، بدأت في 25 يوليو من العام 1996، حين استقلّ سعد طائرة من بيروت إلى زوريخ في سويسرا، ومنها انتقل بطائرة ايبيريا الى مدريد، حيث بقي في مطارها حتى سفره صباح اليوم التالي الى هافانا في كوبا، فأقدم على خطف الطائرة التي كانت تقلّ 231 راكباً من بينهم 85 إسبانياً، اضافة الى طاقمها المؤلف من 14 شخصاً.
لحظات تلك الحادثة التي وثّقتها الصحافة الغربية واللبنانية، خلاصتها انه قبل 40 دقيقة من الوصول إلى مطار خوسيه مارتي في هافانا، وقف الفلسطيني سعد ابراهيم وأبلغ الى احدى المضيفات ان لديه قنبلة يدوية وسيفجّرها اذا لم يتحدث الى قائد الطائرة، فكان له ما أراد، وتوجّه إلى قمرة قيادتها وطلب من الطيار الإسباني خافيير ايشاب التوجه بها الى مدينة ميامي في ولاية فلوريدا الأميركية، بعدما صدّق الكابتن ان ما يحمله ابراهيم هو قنبلة تبين فيما بعد انها عبارة عن جهاز تسجيل صغير ملفوف مع "ماكينة حلاقة" كهربائية في ورق الالمنيوم اللامع. وخلال رحلة الخطف أُبلغ الـ"أف.بي.آي" الأميركي بطلب سعد الوحيد «الغريب» وهو أن تهبط الطائرة في ميامي ليسلّم نفسه إلى سلطاتها، وإلا فسيحدث لها ما جرى لغيرها. وسريعاً تبلّغ الرئيس الاميركي آنذاك بيل كلينتون، بأمر الطائرة وبمطلب خاطفها الذي ظنّ الجميع انه كوبي، وحين هبطتْ سلّم نفسه في مطارها بعد 10 دقائق، فحاكموه طوال عام وتمت إدانته بعقوبات القرصنة الجوية ومدتها 20 سنة سجناً، وبعد انقضائها أُفرج عنه، وأعيد عبرمطار جاكسونفيل الى بيروت وقد أصبح عمره 47 عاماً.
وتقول الوالدة انتصار لـ"الراي" مستذكرة تلك الاعوام المريرة، "في المراحل الاولى من محاكمته، كان يتصل بنا عبر الهاتف، بعد توكيل محام اميركي يدعى وليام للدفاع عنه، وكان يبلغنا في كل اتصال انه بخير فقط، الى ان انقطع التواصل معنا قبل سبعة أعوام وتحديداً بعدما علم بوفاة والده (ابو هاشم)، وقد مرت علينا اوقاتاً عصيبة، فولدي سعد لم ينتمِ الى اي تنظيم سياسي او عسكري، وليس ارهابياً ولا خاطف طائرات، بل باحث عن حياة أفضل لم يجدها في لبنان، لكن حكم القضاء الاميركي ظلمه مرة ثانية ولم ينصفه، ولم يتفهم مطالبه المحقة ولا هواجس قلقه وكيف يمكن لانسان ان يعيش لاجئاً طوال العمر ومحروماً من أبسط حقوقه الانسانية ومن العمل والتملك".
وأضافت ان "سجن ابني سعد رسالة للعالم اليوم، ليسمع صوت العذاب الفلسطيني وانه آن الأوان لينتهي الاحتلال الاسرائيلي لأرضنا لنعود الى كل ديارنا. وحتى يتحقق ذلك نريد ان نعيش بحرية وكرامة. ومَن يعِش حراً ويملك جنسية أخرى، فهذا لا يعني إلغاء حق العودة".
غضب الحاجة انتصار، هدأت من روعه شقيقة سعد التي كانت تنتظر في بيت العائلة عودته، وقالت بصوت متهدج لـ"الراي": "لقد أمضى نصف عمره وراء القضبان وبين الجدران، ولا ذنب له سوى انه أراد ان يعيش بحرية مرفوع الرأس، وان يبني أسرة لا تكون معذّبة مثله، لقد رحل والده ولم يلق عليه النظرة الاخيرة، وغرقت شقيقته ايمان في رحلة البحث عن الأمان والاستقرار في دول الغرب. الى متى سنبقى معذبين في الارض ولا يسمع صوتنا احد؟ شقيقي مظلوم فمَنْ ينصفه بمنحه اللجوء الانساني اليوم"؟
(الراي الكويتية)