عندما يهوى ذوو الدخل المحدود في لبنان التمثّل بأثريائه، تنقلب حياتهم في المبدأ لكنّها لا تتغيّر في الجوهر. قد يرغبون في ادّخار القسم الأكبر من راتبهم الشهري بهدف ارتياد المتاجر الفخمة، أو شراء مقتنياتٍ كماليّةٍ في إطار التفاخر والذوبان شكليًّا في مظاهر الرفاه. الّا أن القشرة الخارجيّة لتصرّفاتٍ كهذه، تحمل معها طموحات وأحلام كثيرة.

وفي طليعتها، الانصهار في طبقةٍ اجتماعيّة راقية، لا وجود فيها لمظاهر الفقر والعوز والحرمان. يعتمد هذا التكتيك غالبًا، من الأشهر الأولى على تولّي الفرد وظيفة ما، فيبادر الى شراء سيّارةٍ بالتقسيط، أو استبدال هاتفه الذكيّ بآخر حديث، الأمر الذي يجعله مصدر جذبٍ مخادع للصوص.

بيد أن هذه السلوكات، ورغم اصطيادها أفكار السارقين، الّا انها تصطدم غالبًا بعدم إمكان الاندماج في إطار تكتّلاتٍ مجتمعيّةٍ جديدة. يحصل ذلك عندما تصعب محاولات الانتماء، نظرًا إلى عوامل عدة أساسها الطبقيّة، فضلاً عن معايير الجغرافيا والطائفيّة إلى المعادلة. في ظلّ هذا الواقع، كيف يمكن توصيف خبايا العلاقات الاجتماعيّة اللبنانيّة اليوم؟   خيبة أمل لعلّ أبرز مثالٍ يطرح عن أهميّة التغني بمظاهر الرفاه في حياة المواطن اللبناني على رغم الأوضاع الاقتصاديّة المترديّة، هو عدم قدرة اللصوص على التمييز بين الاغنياء وذوي الدخل العاديّ. يستخدمون الدراجات الناريّة بهدف المطاردة في الأحياء والأزقّة الضيّقة، ويعتمدون استراتيجيّة الترقب للتأكّد من حسن سير خططهم. ما حصل مع السيّدة رنا، ربّة منزل، مثالٌ على ذلك.

تقول: "تعرّضت لعمليّة سطو من أمام باب منزلي في خلده أثناء اصطحاب أولادي من المدرسة، حيث أعتقد أنني رُصدت من مجموعة لصوص لفترة، قبل شروعهم في سرقة حقيبة يدي أملًا في الحصول على مقتنياتٍ ماديّة قيّمة. الّا انهم لم يفلحوا سوى في سرقة بعض أوراقي الثبوتيّة، ومبلغ ماليّ زهيد لأنني لم أكن أملك ما يطمحون اليه". وعن السبب الذي دفعهم الى استهدافها، تعتبر أن "السيّارة الجديدة خدعتهم، في حين أنّ زوجي لا يزال يسدّد قيمتها من طريق المصرف. كما أن مظهري الانيق والشقة المستأجرة التي نقطنها دفعهم الى الظن في انّنا ننتمي الى طبقة راقية، بيد أن مدخولنا يعتمد على عمل زوجي في صفوف قوى الأمن".   الضروريات تعادل الكماليّات لطالما عرف اللبنانيون بحبّهم للحياة. هذا ما جعل التمييز بين ذوي الدخل المحدود والمرتفع صعب في بعض الأحيان، كما حصل مع رنا. وتوضع هذه النظريّة عادةً في خانة رغبة الجميع في التماثل مع الأغنياء في بلدٍ مبنيٍّ على ثقافة الصورة، أو ما يعرف بالمظاهر "البريستيج". وفي دراسةٍ أجراها المركز الإداري للإحصاءات في لبنان بالتعاون مع البنك الدولي، حول توزّع نسبة إنفاق اللبنانيين بين السلع والخدمات الضروريّة والكماليّة في السنوات الأخيرة، تبيّن أن نسبة إنفاق المواطن اللبنانيّ على السلع الاستهلاكيّة الضروريّة تعادل نسبة إنفاقه على الكماليّات. واظهرت الدراسة أن حصة الإنفاق على السكن هي الأكبر، حيث سجّلت 28.5% من إجمالي مجموع الإنفاق عام 2012. المرتبة الثانية أتت من حصة الإنفاق على الطعام والشراب وراوحت ما بين 18 و22%، يليها الإنفاق على وسائل النقل والمواصلات مع نحو 13%. وتظهر الدراسة في الوقت نفسه، أن الإنفاق على الاستشفاء يصل الى 7%، في حين أن 53% من إجمالي المصاريف في هذا القطاع تخصّص لشراء الأدوية.   أمّا النسبة التي يقتطعها المواطن اللبنانيّ من مدخوله على الخدمات التعليميّة، فهي تتباين بين منطقة وأخرى. ففي محافظتي بيروت وجبل لبنان، تبلغ إجمالي النفقات 7% في السنوات الأخيرة، في حين أن النسبة تنخفض في المناطق الشماليّة لتصل إلى 4%.

ولفتت الدراسة الى أن الإنفاق على التعليم شهد تراجعًا ملحوظًا في العقد الأخير، حيث كان يبلغ 7.68% في العام 2005، بيد أن المعدّل العام انخفض في عام 2012 إلى 5.86%. كما تبيّن أن اللبنانيين ينفقون على ملابسهم بمستوى يقارب إنفاقهم على التعليم، حيث سجّل معدل الإنفاق على اللباس نحو 5%.   بين الطبقيّة والديموغرافيا والطائفيّة على رغم الممارسات التي تؤكّد رغبة الطبقات الاجتماعية الدنيا في الانصهار في بوتقة الاثرياء، الّا أن تحدّيات جمّة تعوقهم. وتعتبر الاختصاصيّة في التحليل السلوكي الأستاذة منى صعب، أن "معايير عدّة تؤدّي الى فشلهم في عمليّة الإنصهار، وأهمّها عدم تقبّل الطبقة الغنيّة التواصل الوطيد مع ذوي الدخل المحدود نظرًا لالتزامات تصنيفيّة وتحكيم معايير البريستيج. كما أن الانتماء الديموغرافي يؤدي دورًا في تجزئة المجتمع، بحسب التحدّر المناطقي، ومن الأمثلة على ذلك صعوبة تأقلم أبناء المدينة مع سكّان المناطق النائية والعكس، نظرًا لاختلاف أنماط العيش. ويكمن السبب الثالث في الاعتبارات الطائفيّة والمذهبيّة".   وتشير الى أن "المجتمع اللبناني مكوّن من جماعات غير منسجمة في ظلّ علاقاتٍ اجتماعيّة تتسم بالبرودة مع رغبة البعض في إلغاء البعض الآخر. هنا يجب الإشارة الى عامل التربية الذي يضطلع بدور أساس في تعزيز منطق التصنيف وعدم تقبّل الاختلاف.

لذلك يمكن توصيف مجتمعنا الصغير بالمفكّك".   وعن القواسم المشتركة الجامعة بين الجماعات المتباعدة، تلفت الى أن "الفكر الإنساني يمتاز بالتكافل في حال تنبّه الى خطرٍ مشترك. هذا يعني أن اتحاد اللبنانيين بمختلف أطيافهم يحصل في حال خرجوا من الزواريب الضيقة وفكّروا بصيغةٍ جامعة. حتى إن إمكان تحقيق هذا التكافل ممكن بصيغةٍ أكبر من دول الغرب في ظلّ الإيمان بمنطق الجماعة في حين يرجّح الأوروبيون مبدأ الفرديّة".   بين تطلّع أصحاب الدخل المحدود في لبنان الى قشورٍ يتماهون خلالها مع الأثرياء، واحتكام الطبقة الغنيّة الى قشورٍ تبني اعتقاداتهم حول الفقراء، تضيع جميع إمكانات التواصل. الأجدر البحث عن أواصر ربط جوهريّة مبنيّة على أسسٍ متينة. وتبقى الكماليّات حاجاتٍ ثانويّة شكلية، لا تحدّد أطر العلاقات بين البشر. أمّا المساواة، فتبقى حاجةً أوليّةً دائمة، مرصّعة بالصدق.