لغرض التواصل بين أبناء المجتمع والتعريف بمختلف المناطق، استضاف منتدى الثلاثاء في أمسية ثقافية تاريخية عن المجتمع المكي الدكتور الشريف محمد علي الحسني، تحت عنوان "مكة المكرمة: تاريخ ومجتمع"، وذلك مساء الثلاثاء 11 ربيع الأول 1437هـ الموافق 22ديسمبر 2015م.
وصاحبت الأمسية فعاليات مصاحبة، حيث تم عرض فلم حول مبادرة السلام التي انطلقت من كوريا لتحقيق السلام في العالم، وشاركت الفنانة أحلام المشهدي بكلمة عن تجربتها في الفن التشكيلي وإتجاهه "السريالي والتعبيري" وكيف إنفردت بفنها الخاص، حيث قدمت تجربة فريدة ومميزة في معرض المنتدى أسمتها "الحب" شملت العديد من اللوحات الفنية المتميزة. كما تم تكريم عالم الجيوفيزياء الأستاذ حسن محمد إسماعيل لإختياره عضوًا في المركز الإستشاري للقادة الشباب في أرامكو السعودية وتحدث عن تجربته في مجال المشاركة الشبابية وتوجهات الشركة لدعم جيل الشباب وتهيأتهم للمستقبل.
أفتتح مدير الندوة ورئيس اللجنة المنظمة للمنتدى الأستاذ عيسى العيد بمقدمة عن مكة المكرمة واصفاً إياها بقبلة المسلمين، ومؤكدا على أهمية التواصل والتعارف بين أبناء الوطن الواحد من خلال ابراز مختلف المعالم الثقافية والاجتماعية للمجتمع السعودي بهدف التعريف المباشر من أبناء كل منطقة. وأشار إلى أن الصورة النمطية التي يتم تد اولها أحيانا قد لا تعبر بشكل سليم أو صحيح عن واقع المجتمع، مما يحملنا مسئولية العمل على التعريف الموضوعي لتعزيز التواصل الأنسب. وعرف المحاضر بأنه من مواليد مكة المكرمة ومؤسس الرابطة العالمية للأنساب الهاشمية ومعرض آثار الرسول ومؤسس قناة "صلة" الفضائية، وله العديد من المؤلفات منها العقود اللؤلؤية في الأنساب الحسنية الهاشمية، والملك عبد العزيز وملحمة البناء، والزيدية، والثورة العربية.
استهل الدكتور الشريف محمد الحسني الندوة بالحديث عن مكة المكرمة منذ بداية تأسيسها واصفاً إياها بأنها كانت معبرا للقوافل التجارية، وحلقة من حلقات الاتصال بين مختلف المناطق، ولذلك فقد تشكل فيها تنوع مجتمعي متعدد الأطياف والأعراق. وأورث هذا الانفتاح استعدادا لإقامة الأسواق والتجمعات والمنتديات وتعدد المناسبات واختلاط الثقافات بين أهالي مكة الأصليين والمجاميع التي تفد إليها من كل مكان. وتطرق المحاضر بعدها للحديث عن المجتمع المكي قبل الاسلام، حيث قسم مجتمعها إلى بدوي وحضري وشدد على أهمية التعرف على البيئات الاجتماعية الحاضنة لكل منهما، حيث أن المجتمع الحضري في مكة المكرمة كان يعيش ضمن نظام اجتماعي واضح ومتطور ومتفاعل مع المحيط حوله، بينما كان المجتمع البدوي أو الزائرين لمكة في المواسم التجارية والدينية يعيش في بيئة غير مستقرة، كما أشار إلى أن المجتمع الحضري المكي هو مجتمع قيادي وله نظام صارم دون سواه من المجتمعات، وهذا النظام تعرفه كل القبائل وتحترمه. كما تحدث المحاضر عن عادات وأخلاق المكيين والتي كانت معروفة ومتوارثة لديهم دون سواهم، وأهم هذه العادات السقاية والرفادة وتحديد الأشهُر الحرم وكانوا يضعون لها نظاما صارما أيده الاسلام عندما بعث الرسول .
وأوضح أن المجتمع المكي تقلد السلطة والسيطرة والقيادة التي إكتسبها من خلال تنظيم العلاقات بين القبائل وإدارة اللقاءات بين الوفود من خلال تنشيط النوادي التي كان يجتمع فيها الناس ويتداولون فيها الشأن العام، مثل دار الندوة وغيرها. واستعرض الدكتور الحسني الطبقات المجتمعية التي كانت تقطن مكة مشيرا لبعض دلائل وجود غير العرب في مكة وكذلك من أتباع الديانات المسيحية واليهودية كمهاجرين قدموا بسبب الحروب الإقليمية المجاورة. وأوضح أن هذه الجاليات التي أقامت بمكة وما تحمله من عادات وأفكار أحدث تفاعلا مع المجتمع المكي، وهو دلالة على كون مكة فضاء ً مفتوحاً لتلاقح الحضارات مما جعلها في مكانة حضارية مرموقة تميزت بها دون سواها. وتحدث الشريف الحسني عن الثقافة الجمعية السائدة لدى المجتمع المكي وما حوله بالاعتقاد بالجن كمصدر للتنبؤ والكهانة والسحر، ونظرا لما يحتله ذلك في مجتمع مكة والقبائل المجاورة لها، فقد كانت هذه التكهنات في مقاربة موضوع النبوة سببا في رفضهم لرسالة النبي محمد حيث أنها لم تأت بالخوارق التي سمعوا عنها كما جاء بها الأنبياء من قبل. كما أشار المحاضر إلى أن التجارة في مكة ساهمت بصورة كبيرة في الانفتاح على المجتمعات الأخرى، فكانت الحجاز منطقة مفتوحة وتستقبل مختلف الأعراق والثقافات والأديان، وهو ما دفع بعض التجار للإستقرار فيها.
كما بين أن من نتائج ذلك انتشار الفنون، ودخول الكثير من المصطلحات اللغوية على المجتمع المكي، كما لعبت الأسواق التجارية التاريخية في مكة في تحولات ثقافية واضحة لدى المجتمع المكي. وجريا على العادات المكية في استقبال الوفود دخلت بعض الفنون المستحدثة في المجتمع المكي منها الفنون الحبشية كالرقص والطبل واستقرت بعضها في المجتمع المكي قبل وبعد الإسلام. وأوضح المحاضر أن من بين الآثار التي ترتبت على ممارسة التجارة والاختلاط بين الأعراق المختلفة استخدام مفردات من اللغات الفارسية والحبشية والآرامية ومنها أسماء البضائع وصقلت هذه المفردات على مر الزمن. بعد المحاضرة، طرحت مجموعة من مداخلات وأسئلة الحضور، حيث طرح الأستاذ رياض أبو خمسين وجهة نظره في العديد من مواد المحاضرة كالخلاف حول مفردة "قريش"، وأن دار الندوة ليست ناديا عاما وإنما هي إطار لحكم محلي، واختلف مع المحاضر حول تاريخ ورقة بن نوفل، وأن المفردات اللغوية ليست جميعها أعجميا بل هي تطور طبيعي للغة المستخدمة.
كما تساءل الأستاذ أحمد الحسن عما طرحه المحاضر من أن اليهود والمسيحيين ليسوا عربا وحول مبتنياته التوثيقية في ذلك مشيرا إلى أنهم جزء لا يتجزأ من العرب، وتساءل ايضا عن ضعف دور مكة حاليا ثقافيا وتجاريا. وطرح الاستاذ علي الحرز أن مكة لم تذكر في الشواهد التاريخية على أنها من المدن القديمة وقد وردت الطائف في كتب التاريخ قبلها، وأن المجتمع المكي لم يكن مجتمعا عسكريا مسلحا حتى أنه واجه جيش أبرهة بالدعاء وليس بالسلاح. وتساءلت الفنانة أحلام المشهدي عن دور الأسر المكية في استقبال الحجاج وعن انقطاع هذه العادة لدى المكيين. وأِشار الأستاذ حسين السلهام إلى العلاقة بين أهالي مكة ومنطقة البحرين واتباع الكهنة وأن المبشرين بالنبوة كانوا من أهالي البحرين وأن تجارة دارين كانت أيضا مع الحجاز.
وتناول الأستاذ علي البحراني الإشكالات المتعلقة بالسلوكيات الأخلاقية للمجتمع العربي والتداخل الناتج عن ممارسة التجارة، وتساءل الأستاذ علي السويد عن أختفاء الآثار واندثارها في مكة المكرمة وتحولها مع مرور الزمن إلى مدينة مليئة بالعمارات والمراكز التجارية الحديثة. وتحدث الشريف عبد الرحمن الأبلج عن ضرورة قراءة التاريخ بصورة علمية وموضوعية ومعرفة الأنساب العربية بصورة دقيقة، ودعا الأستاذ عبد العزيز الحسن إلى أهمية العمل الفكري الحضاري في ظل ما يعيشه العالم من ضياع فكري وديني وحروب اقليمية، مشيدا بجهود وأنشطة المنتدى واحتضانه للعديد من الفعاليات الثقافية والفنية. وشكر راعي المنتدى الأستاذ جعفر الشايب المحاضر والحضور على مشاركتهم مشيرا إلى أمله في أن تتناول المحاضرة قضايا التحولات الاجتماعية المعاصرة في مكة المكرمة والتأثير الثقافي المعاصر على المجتمع المكي.