يصعُب الكلام، في مجتمعاتنا العربيّة، عن أيّ تناظُر بين السياسة والاجتماع. فالسياسة والسلطة المنبثقة منها تتحكّم بهما طغمة عسكريّة أو شلّة عائليّة مغلقتان عمّا يجري من تحوّلات في المجتمع. ذاك أنّ الأخير قد يشهد حراكاً طبقيّاً أو توسّعاً في التعليم، وهو لا بدّ يعيش تحوّلات جيليّة يصير معها أطفال الأمس شبّان اليوم. لكنّ ذلك كلّه لا يعكس نفسه على سياسة صمّت أذنيها عمّا يجري خارجها. وربّما لجأت الطغمة العسكريّة أو الشلّة العائليّة إلى تكنوقراطيّ أو مثقّف يُعيَّن وزيراً، إلاّ أن الوزير هذا لن يزن وزن ذبابة في حسابات السلطة الفعليّة ولدى صنع قراراتها المفصليّة.
والحال أنّ لبنان، وبسبب من ديمقراطيّته النسبيّة، سمح تقليديّاً بدرجة أعلى من التجانس بين الاجتماع والسياسة. فالحراك فيه كان أعلى والاستبداد كان أقلّ. هكذا، وفي انتخابات 1972 العامّة التي كانت آخر انتخابات تسبق الحرب، دخل إلى البرلمان بعض من مثّلوا مصالح ماليّة واقتصاديّة، كما دخل عدد قليل من المثقّفين ومن المنضوين في أحزاب غير طائفيّة.
صحيحٌ أنّ هذا كلّه بقي محكوماً بسقف الطائفيّة وكتلها النيابيّة والسياسيّة الكبرى. لكنّ الرهان على مستقبل تتراجع فيه الطائفيّة وتعلو نسبة التجانس بين الاجتماعيّ والسياسيّ لم يكن مطلق السذاجة، أو أنّ سذاجته كانت أقلّ من مثيلتها اليوم.
فاستحكام الطائفيّة السياسيّة راهناً يكاد يكون شاملاً، وهو ما يرمز إليه تعبير "المحدلة" (والأصحّ: المدحلة) لدى تشكيل اللوائح الانتخابيّة. وشمول هذا الاستحكام يتفاوت بالطبع بين طائفة وأخرى، حيث يبلغ الذروة شيعيّاً ودرزيّاً ويتّسع لقدر من التعدّد مسيحيّاً، ولقدر أقلّ سنّيّاً.
غير أنّ ذلك لا يلغي شعوراً بالضيق والحصار عند شبّان وشابّات من مختلف الطوائف لا يجدون مكاناً لهم على الخريطة السياسيّة، علماً بأنّهم أكثر قطاعات الشعب اللبنانيّ تعلّماً وتأهيلاً ومعرفة بالعالم وتأثّراً بقيمه الحديثة.
وما يزيد البؤس بؤساً أنّ هذه الوجهة الطاردة مرشّحةٌ لأن تغنم مزيداً من القوّة والتمكين، خصوصاً مع الميل المتعاظم إلى الاستغناء بالحلول الإقليميّة والدوليّة في منطقة المشرق عن ضعف المجتمعات وتراجع قدرتها على رسم مستقبلها وتثبيت استقرارها سلميّاً. وهذا ليس من قبيل التشكيك بالأدوار الخارجيّة، على جاري نظريّات المؤامرة، بل للقول إنّ هذه الأدوار محكومة بشروط داخليّة تستطيع أن تحدّ منها كما تستطيع، في ظروف أخرى، أن تفعّلها وتطلقها.
وقصارى القول إنّ هذه الكتل المطرودة من السياسة قد تجد نفسها، عاجلاً أو آجلاً، مواجَهة بخيارين لا ثالث لهما: فإمّا الانكفاء على البيوت والمهن واستكمال التهميش حيال الشأن العامّ بتهميش ذاتيّ، وإمّا الهجرة إلى الخارج. وفي الحالتين يُرجّح أن يعرف مجتمعنا، وعموم مجتمعات المشرق، المزيد من الفقر والنزف والخواء.