كان حديثاً من حقبة ما قبل السياسة، بل ما دونها. وهو ما لم يكن مفاجئاً ولا مستغرباً أبداً. فهذا دأب لبنان وإرثه الابرز الذي تناقلته أجيال متعاقبة من زعماء وقادة يفجرون الصراعات ويجرون المصالحات وكأنهم في سيرك، او في غابٍ.
بساطة الزعيم الشمالي سليمان فرنجية وعفويته وصراحته، كما بدا في الحوار التلفزيوني مع محطة “أل بي سي”، ليست إضافات الى رصيده المتواضع، وتجربته المحدودة. لكن من الظلم ان تعد نقيصة خاصة به. البقية من زملائه ليسوا فقهاء ولا حكماء، ولا حتى قراء. الاشتغال بالسياسة لم يكن خياره، بل قدره. وكذا الامر بالنسبة الى الجمهور او الى البيئة الخاضعة لهذه الزعامة او تلك. الانحدار اصاب الجهتين. انطوت الجماعات على هوياتها الاصلية، وسلمت قيادها لشبان يعبرون عن ضيق الافق العام.
قيل يوماً ان من سوء حظ لبنان، الذي يعرج منذ الولادة بطريقة مقبولة، ان أبناء وأحفاد جميع زعمائه السياسيين ليسوا في مستوى الاباء والاجداد الدهاة والمحنكين والحذرين، الذين كانوا يلتقطون الإشارات من وسط الغيوم، ويتصرفون على أساسها بقدر معقول من المسؤولية المفقودة لدي الجيل الجديد. ولعل الرحمة تجوز مضاعفة عليهم لهذا السبب بالذات، ولان نسلهم لا يمكن ان ينسب الى مدرستهم.
ليس فرنجية حالة استثنائية. لكنه نموذج مميز. طوال نحو ثلاث ساعات، كان يستحيل العثور على خط سياسي ناظم للرجل الخمسيني المطل على الرئاسة الاولى. شعارات العروبة والعلمنة والوطنية، كانت أشبه بأحاديث الصالونات العائلية المسلية، بل المرحة، التي لا تتصل بأي واقع، ولا بأي من الاحداث التاريخية التي تعصف بالوطن والجوار. الخلافات السياسية العميقة بين الجماعات اللبنانية بدت كأنها حساسيات او عوارض موضعية، يمكن تنحيتها جانباً والتعالي عليها، لمصلحة البلد وحق أبنائه بالكهرباء والماء والنقل.. وإن غاب عن تلك الحقوق أشدها إلحاحاً، وهو انهاء أزمة النفايات المستعصية التي ادت الى إنفجار عصبيات وغرائز ما دون وطنية وما دون سياسية، حيث صار بامكان أي مواطن او قرية ان ترفض طمر او حتى مرور نفايات الاخرين في محيطها، وبات كل لبناني مجبراً على إبتكار حلوله الخاصة لمشكلة لا تحل الا على مستوى الجمهورية، حسبما تفيد تجارب العالم أجمع.
كان حواراً على السطح، لم يدخل في عمق أي مسألة ولا في عنوان أي أزمة. الصداقة الشخصية يمكن ان تتخطى كل شيء، بصفتها بديل النكاية التي تمثل أخطر المشكلات الوطنية. الصداقة هي برنامج فرنجية وطموحه السياسي الاهم: ان يتحول جميع السياسيين اللبنانيين الى أصدقاء يتوافقون على تسيير الامور البسيطة للدولة وتوفير الخدمات الاولية للمواطنين، بدل الاستمرار في مناكفات طالت اكثر من اللازم، وليس منها طائل.
لكن النكاية لم تكن وحدها السبب في تعطيل البلد حاليا او في إفراغ المؤسسات من محتواها وحتى من رموزها. ثمة تناقضات هي بحجم حرب أهلية باردة، وهي صدى لحروب أهلية مشتعلة وليست بمنأى أبداً عن الداخل اللبناني، وباتت تختصر تكونه الجديد، الذي يتحول فيه المسيحيون وموقعهم الرئاسي الى زينة، او ورقة لعب، بدل ان يكون مركزاً لسلطة مؤثرة تنتج مشروع بناء الجمهورية الجديدة، او على الاقل تمنع السنة والشيعة من تدمير الجمهورية القائمة.
فراغ الرئاسة لم يكن سبب انفجار ازمة النفايات، كان مجرد عارض. لعل تفكك تلك العروة الوطنية التي كانت تمثلها النفايات المنتجة في كل بيت لبناني ، يتطلب رئيساً متواضعاً جداً في طروحاته وطموحاته، التي إجتنبت السياسة حتى بمضامينها المحلية وتفاصيلها الصغيرة، وأرجأت البحث في التحديات السياسية، التي لا تختزل بشعور فريق لبناني بالسرور لهزيمة النظام السوري وشعور الفريق الآخر بالحزن. فالتثبت من مصير ذلك النظام هو بمثابة زلزال لبناني يترقبه اللبنانيون جميعاً ويخشون من ان تكون آثاره المدمرة في لبنان أكبر من سوريا نفسها.. وأن يكون خيار الرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط هو المؤشر الاول.