توكلت المحامية اللبنانية بشرى الخليل للدفاع عن هنيبعل معمر القذافي الذي اختطف من حي المالكي في دمشق، في الحي الذي تتكثف فيه سلطة ما تبقى من النظام في سورية، وأحضره خاطفوه إلى بيروت حيث أقدمت الأجهزة الأمنية اللبنانية على تحريره من خاطفيه وتحويله على القضاء اللبناني للنظر بمدى «علاقته بقضية اختفاء رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الإمام المُغيب موسى الصدر». وفي هذا الوقت تقدم الحاكم القضائي السوري بطلب استرداد القذافي بحجة أن عصابة إرهابية مسلحة اختطفته من دمشق، وأن الأخيرة كانت منحته حق اللجوء السياسي، وهو يعيش مع عائلته فيها!
عناصر هذا الخبر تحمل كماً مذهلاً من عدم الانسجام، وتحمل من المفارقات ما يُمكن أن يساعد في رسم صورة بوليسية صلبة عن مافيا متجولة في أرجاء هلال الممانعة. فدمشق التي فاجأت العالم بأنها منحت «حق اللجوء السياسي لنجل القذافي»، فعلت ذلك متجاوزة اعتبارات تحالفها مع خصوم عائلة هنيبعل، رافعي شعار «الإمام المغيب»، ومُجبري لبنان حكومة وشعباً على قطع علاقاته الديبلوماسية مع نظام القذافي، ونعني هنا قيادة الطائفة الشيعية في لبنان ممثلة بحركة أمل أولاً وبـ «حزب الله» ثانياً وبالمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ثالثاً.
وحق اللجوء السياسي لنجل ديكتاتور ليبيا وخاطف إمام الشيعة اللبنانيين موسى الصدر، حين يمنحه نظام دمشق، فإنه أيضاًَ يفعل ذلك مدفوعاً بحنينه إلى زمن عقداء الانقلابات. فالشاب وصل إلى سورية قاصداً «بلد عمو حافظ» قرين والده وابن زمنه. جرى ذلك في وقت يُرسل فيه شبان شيعة لبنانيين للقتال دفاعاً عن النظام الذي يؤوي ابن خاطف إمامهم، وهو أعلن في مذكرة إلى وزارة العدل أن الشاب يتمتع بـ «الحقوق السياسية» التي تمنحها دمشق، واحة الحقوق وركنها في الشرق، إلى كل مظلوم.
المحامية بشرى الخليل (وهي شيعية للمصادفة أيضاً) سبق أن تولت الدفاع عن الرئيس العراقي السابق صدام حسين أثناء محاكمته في بغداد، وهي فعلت ذلك لإيمانها بالقضية التي يُمثلها صدام حسين، وهي سبق أن زارت بغداد في أيام حكمه والتقت نجله عدي. والخليل وهي وجه لبناني عرف بانحيازه لخيار المقاومة وقتال الإرهابيين، وشوهدت في مهرجانات تأييد للرئيس السوري بشار الأسد في دمشق، قالت لصحيفة لبنانية أن لديها شكوكاً بأن يكون لوزير العدل اللبناني أشرف ريفي يد في خطف هنيبعل القذافي من دمشق.
أشرف ريفي اختطف هنيبعل القذافي من حي المالكي في دمشق. الدليل على ذلك أن «مجموعة إرهابية» تولت المهمة بحسب وزارة العدل السورية. وتحضر في هذا السياق عناصر خبر موازٍ كان سبق للممانعة أن ساقته عند بدء «المؤامرة في سورية». مجموعات إرهابية تتظاهر في المدن السورية، مدعومة من أجهزة أمن عربية على رأس أحدها أشرف ريفي الذي كان في حينها المدير العام للأمن الداخلي في لبنان. وجماهير الممانعة في حينها صدقت رواية المؤامرة، فما الذي يمنعها من المصادقة على رواية اختطاف هنيبعل القذافي.
الخليل كانت ممن تولوا الترويج لخطورة «المؤامرة» التي تحاك على نظام الممانعة في دمشق. اليوم وبعدة الإقناع نفسها تتولى الترويج لحكاية خطف أشرف ريفي هنيبعل القذافي من قلب دمشق. والصحف اللبنانية (الشيعية للمصادفة أيضاً) هي من يحمل قضية الشاب ومن يرسم خطوط المؤامرة المحاكة على دمشق جراء اختطافه منها.
والحال أن هذه اللوحة الكاريكاتورية هي جزء من لوحة أوسع تتكشف فيها مستويات غير مسبوقة من استخفاف الممانعة بعقول أهلها. فالبعد المافيوزي لاستضافة دمشق نجل القذافي لا يمكن أن تُخطئه فطنة. دمشق التي هذه حالها وهذه حال نظامها، تستضيف نجل القذافي! أليس في الأمر ما يدعو إلى الحيرة؟ ثم أن حكاية اختطافه من المالكي، إذا لم يكن النظام وراءها، فهي تؤشر إلى أن حال النظام وأهله أسوأ مما نعتقد.
أما أن يرتسم خط تُمثله السيدة بشرى الخليل يبدأ بالدفاع عن صدام حسين بصفته قضية، ويمر بحضور مهرجانات تأييد طاغية دمشق بشار الأسد وينتهي بالدفاع عن هنيبعل القذافي، فهذا أمر مفهوم إذا ما جرد المرء الصراعات الجارية اليوم من منطق الانحيازات الأخلاقية. فهنا علينا أن لا ننسى أن ضحايا صدام، أو على الأقل ممثليهم الشيعة، يُقاتلون اليوم إلى جانب طاغية يُشبه جلادهم، وهو النظام نفسه الذي كان قال عنه نوري المالكي أنه هو من كان يرسل السيارات المفخخة إلى الأحياء الشيعية في بغداد. ويفعل ذلك أيضاً فتية لبنانيون، فيتولون حماية النظام الذي يؤوي نجل خاطف إمامهم.
الأكيد أن هناك قصة لم تروَ عن اختطاف القذافي من دمشق، وأن لحلفاء دمشق في بيروت دوراً ما فيها. كما أنه يحق للشاب محاكمة عادلة، لا بل الأرجح أن لا قيمة قضائية لتوقيفه، لا سيما اذا عرفنا أنه لم يكن قد بلغ الثالثة من عمره عند اختطاف والده الصدر. لكن تصدر وجه كالخليل قضيته يحيلها فوراً إلى قضايا الخليل الخاسرة بدءاً من صدام مروراً بالأسد ووصولاً إليه. ثم أن لمزاوجة الخليل بين ممانعتها وانحيازها لصور ديكاتوريينا وأولادهم دلالة أيضاً، ذاك أنه ثبت وبالتجربة أن لا ممانعة من دون ديكتاتور، وربما أوصلنا هذا أيضاً إلى ما نحن فيه من زمن «داعشي»، ذاك أن أيتام صدام حسين الذين لجأوا إلى دمشق بعد انهيار نظام «والدهم»، عادوا إلى العراق وفيها أسسوا «داعش» بعد سنوات من «الإيمان الدمشقي».
لا شك في أن للقصة أبعاداً بوليسية مشوقة. والأرجح أن جناحاً في الممانعة غير مخلص لنظام دمشق تولى مهمة خطفه، وأن الأخيرة تشعر بطعنة حليف، وهي سارعت في طلب استرداده وفي صياغة نظرية مؤامرة ركيكة على غرار كل صياغاتها عن «المؤامرة» التي تستهدفها، فعلت ذلك وهي على يقين بأن من تتوجه إليهم لا تعوزهم المتانة لتصديق ما تقول.
لا يبدو أن قيمة تصمد أمام إغراء «الدفاع عن الطائفة» في هذا الزمن، حتى لو انطوت على هذا القدر من الوضوح والانكشاف. لكن ما كشفته واقعة نجل القذافي أن أحداً غير معني بقضية تغييب الصدر، وأن الملف لم يعد أكثر من ورقة تستحضر حين تحضر المصالح، وهذه الأخيرة اليوم في يد حلفاء خاطفي الإمام.