منتصف ليل الاثنين كان أكثر من مظلم على عائلة يمّين في زكريت المتنيّة. إذ خسرت العائلة المهندس الشاب غاري وهو في عزّ عطائه ونشاطه. قبل ثلاثة أيام احتفل غاري بعيد ميلاده الـ29 مع رفاقه، حيث امتلأت صفحته على "فايسبوك" بالمعايدات: "العمر كلو" كتب له أحد الأصدقاء، لكن العمر كان أقصر ممّا تمنّوا.
ففي حين كان غاري في إحدى الورش الخاصة في الزعرور مع شقيقه ورفاقه هبّ لمساعدتهم فصعد على متن الآلية الضخمة وتحديداً على رفشها، لكن الأخير استدار بشكل مفاجئ، ما أدّى إلى سقوط غاري عن ارتفاع 6 أمتار. هي ليست زلّة قدم ولا تعثّر، بل انقلاب مفاجئ للرفش.
نقلته سيارة إسعاف تابعة للصليب الأحمر اللبناني إلى مستشفى بحنّس، لكنه كان قد فارق الحياة. وبعد كشف الطبيب الشرعي على الجثة أكد أن سبب الوفاة هو ارتطام الرأس لحظة السقوط، ما أدى إلى نزيف داخلي.
وقد أبى الجسد الغضّ أن يصيبه أيّ تشويه ليسمح للأهل بتقبيل الوجه الجميل. "كان متل خيّي" تبدو الحسرة واضحة في حديث عبدو يمّين، الرفيق المقرّب جداً من غاري، لـ"النهار" إذ قال "غاري متل خيّي ربينا سوا"، ويضيف "شقيقه وشقيقي كانا موجودين معه لحظة الحادث، كانوا يمدّون قساطل لضخ المياه في منطقة الزعرور. كان غاري لوحده على رفش "البوكلين"، في حين كان الشوفير في غرفة قيادة الآلة، أما هما (شقيقه وشقيقي) فكانا على الأرض وسقط أمامهما".
ماذا يُقال في الأخ حين يغيب؟ "إنسان خدوم جداً، عائلته هي كل شيء في حياته، لا يمكنه إلا أن يساعد من حوله فلا يرى أحداً يقوم بعمل ما من دون أن يقحم نفسه في المساعدة. أساساً، ليلة الاثنين لم يكن مطلوبًا منه العمل معهم، غير أن اندفاعه وحماسته جعلاه يتولّى مساعدتهم خلال إنهاء الأعمال وكان الموت سريعاً إليه". أما رفيقه سامر غصين الذي تجمعه به هواية تربية الخيول، فيقول لـ"النهار": "ما كانت سايعته الدنيي"، ويضيف "أعرفه منذ سنوات طويلة، يعمل في كل شيء، ولا تفارق الضحكة ثغره، يربّي الخيل، ويهوى الصيد، يحبّ الحياة، ولا يرفض خدمة. عمّر بيته بنفسه في ترشيش من الخشب وكذلك حظيرة الخيل".
أخبار ذات صلة زارتها القديسة ريتا... قصة رؤية سماوية عايشتها عائلة لبنانية مسلمة "شو قالولك عن ابني؟" علمت والدة غاري أننا في صدد إعداد تقرير عن وفاة ابنها، فأصرّت على معاودة الاتصال بنا لتزيد الكلمات حسرة ووجعاً. إنه الألم الذي لا يُخَبّأ ولا بدّ من مشاركته، إنه ضعف الفؤاد على استيعاب الحسرة بمفرده. "ما بعرف شو قالولِك عنو؟" سألتنا. كلّ ما هو جميل أيتّها الحزينة. فتقول "أكيد لأنه إنسان جميل، طاهر ونقيّ، هو يدي اليمنى. يحبّ الأرض والطبيعة والحيوانات. أساعده في الاهتمام بهذه كلّها.
كان دوماً يقول لي: لو لم تهتمّي بها من كان لِيساعدني سواكِ؟ يفرح عندما يراني أقوم بالاهتمام بمزوراعته وحيواناته. كان لديه حلم وحيد وهو إنشاء مزرعة للخيول. بدأ بتربية أول فرس تحقيقاً لهذا الحلم. رحل الغالي وقطع ظهرنا، الكل حولي حزين. لم يتزوّج لأنه يريد فتاة ترضى بكل انشغالاته وهواياته. كتر خير ربنا، عالحرقة ما عاد في دموع".
غاري وأسباب الموت غاري يمّين، خريج الهندسة الميكانيكيّة، الذي عاد إلى لبنان قبل نحو سنة من السعودية، يعمل حالياً في شركة بيروت الدوليّة للصناعة البحرية والتجارة، وتحديداً في مشروعها لجزيرة اصطناعيّة عائمة في
جونيه. لكن الأحلام ومشاريع الحياة كانت أكبر من معاش بالكاد يحصل عليه، ما دفع بالشاب إلى العمل في مشاريع على حسابه الخاص. له شقيق وشقيقة كَوَتْهما الصدمة، يحاولان الوقوف جاهدين إلى جانب الوالدين. تودع زكريت اليوم عريسها فارشة له طرقاتها دموعاً وصوراً وزغاريد.
سيحمله الشباب على الأكفّ عوضاً من حمله على الأكتاف في إكليله.
رفاقه الذين قطعوا معه قوالب الحلوى ليلتي السبت والأحد، سيقطّعهم غيابه لأنه ملأ الدنيا بضحكته قبل أن يهمّ بالرحيل المفاجئ. لا تعزية لوالدته فيرا الثكلى ووالده فؤاد المفجوع، ولا دواء للجرح الذي أصاب شقيقه غاييل وشقيقته غريس، طوى جناحيه وغاب عن هذه الدنيا التي عشقها.