أما وان المبادرة الرئاسية التي طرحها الرئيس سعد الحريري قد تعثرت، ولا أفق واضحاً لها زمنياً وسياسياً، فإن رئيس «تيار المستقبل» يبدو كأنه قرر أن يراجع حساباته التي بُنيت في المرحلة الاولى على زخم لقاء باريس، قبل أن يتبين أن المسافة بين بيروت والعاصمة الفرنسية كانت كفيلة باستهلاك هذا الزخم وهدره.
أدرك الحريري أن لا فائدة من خسارة حليفه المسيحي المركزي، وهو سمير جعجع في لحظة انعدام وزن، مرشحة أن تطول. ربما كانت التضحية ببعض الحلفاء ستصبح مبررة أو مفهومة لو أن مردودها مضمون، لكن رئيس «المستقبل» شعر، على الأرجح، بأنه من العبث السياسي أن يخسر سمير جعجع من دون أن يربح سليمان فرنجية.
كما أن جعجع الذي يخفي في أعماقه من العتب والغضب على الحريري، ما يفوق بكثير القدر المتسرب الى سطح معراب، وجد أن المصلحة تقتضي العضّ على الجرح في هذه المرحلة الانتقالية والضبابية، خصوصا أن «إعلان النيات» الذي وقعه مع العماد ميشال عون لم يرتق بعد الى مستوى التحالف، الذي يمكن أن يعوّض خسارة حليف من وزن «المستقبل».
والأرجح أن العامل السعودي لم يسقط من حسابات جعجع عندما كان يحدد موعداً لاستقبال نادر الحريري وهاني حمود في معراب، إذ إن الذهاب بعيدا في المواجهة مع «المستقبل» وخياره الرئاسي الطارئ، سيرتّب تداعيات على علاقة «القوات» بالرياض التي تغطي هذا الخيار، وهذه كأس مرّة يحاول جعجع تفاديها قدر الإمكان، في ظل انتفاء البدائل الإقليمية الحاضنة.
وهناك في أوساط «القوات» من يؤكد أن مسار التسوية المفترضة ما زال في أوله، «وكل من يظن أن هذه التسوية ستُنجز في وقت قريب هو واهم، بل إن المبادرة التي أطلقها الحريري عبر ترشيحه فرنجية تفتقر، ليس فقط الى شروط النجاح، بل حتى الى مقوّمات الاستمرار، ما يعني أن الاستغراق في أي خلاف بين الحريري وجعجع حول سراب رئاسي، لن يعدو كونه مراهقة سياسية لا مبرر لها»، كما يتردد في الكواليس القواتية.
وأغلب الظن أن نموذج التحالف الراسخ بين «حزب الله» والعماد ميشال عون كان حاضراً كذلك لدى الحريري وجعجع عندما قررا إعادة ترميم العلاقة المتصدعة وتأهيلها.
وإذا كانت حرب تموز قد شكلت محكاً صعباً لـ «ورقة التفاهم» التي خرجت متماسكة من خضم رياح الحرب، فإنه يمكن القول إن مبادرة الحريري الى طرح اسم فرنجية للرئاسة انطوت على الاختبار الأصعب للعلاقة بين الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله ورئيس «تكتل التغيير والإصلاح» العماد عون، خصوصا أن الطرف الآخر في هذا الاختبار هو حليف مشترك هذه المرة، أي سليمان فرنجية، في حين أن الطرف الذي شكّل التحدي في امتحان 2006 كان العدو المشترك، أي اسرائيل.
ومع ذلك تمكن «السيد» و «الجنرال» من النجاح حتى الآن في الامتحان الرئاسي، المستمر فصولاً، برغم حساسية الموقف الذي واجهاه بعد ترشيح رئيس «تيار المردة» من قبل الحريري، وهو الأمر الذي نال إعجاب جعجع نفسه، بعدما أحس بفارق واضح في الثبات على التحالف مع المكوّن المسيحي، بين «حزب الله» و «تيار المستقبل».
وليس خافياً كذلك أن التعارض بين «القوات» و «المستقبل» حول خيار فرنجية ترك أثره العميق على القواعد الشعبية لدى الجانبين، التي تبادلت الهجمات والاتهامات، بأبعادها الطائفية والسياسية، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في استعادة لمنطق ما قبل 14 آذار 2005، حتى حتى كاد ما جمعه دم الرئيس رفيق الحريري يفرّقه ترشيح فرنجية.
ولاحقاً تمدد الاشتباك المستجد من خطوط التماس «الالكترونية» الى الساحة الإعلامية، حيث تراشق بعض الصحافيين المحسوبين على الطرفين «المقالات» المزوّدة برؤوس من النقد اللاذع.
شعر الحريري وجعجع بأن الشارع، كما المشروع، يكاد يفلت منهما في لحظة افتراق، كانت أشبه بـ «ذبحة سياسية» مفاجئة ضربت قلب العلاقة، وتركت تداعياتها على كل الجسم.
وبهذا المعنى، فإن المبادرة الحريرية أتت لتكشف عن نقص كامن في المناعة المكتسبة للتحالف بين «القوات» و «المستقبل»، أكثر مما تسببت به، ومن يراجع العديد من المحطات التي عبرت فيها العلاقة الثنائية خلال الاشهر الاخيرة يلاحظ أن عوارض المرض كانت قد بدأت بالظهور منذ ذلك الحين، قبل أن تتفاقم في الأيام الأخيرة، تحت وطأة انعطافة الحريري.
وفي سياق متصل، أكد الرئيس فؤاد السنيورة لـ «السفير» أن اللقاءين اللذين حصلا أمس في مجلس النواب (السنيورة مع النائب جورج عدوان) وفي معراب (نادر الحريري وهاني حمود مع جعجع) كانا يهدفان للتأكيد أمام اللبنانيين ومن ضمنهم المناصرون، أن الجانبين في تواصل مستمر برغم بعض التباين، وأن الجهد متواصل وصادق من قبلهما لتظل العلاقة على ما ينبغي عليها أن تكون.
وأوضح أن الطرفين التقيا على التأكيد أن التباين في وجهتي النظر حيال الملف الرئاسي هو موضعي ومحصور، وبالتالي فإن كل شيء يجب أن يبقى على حاله في الملفات الاخرى التي يوجد أصلاً تطابق في مقاربتها.
ولفت السنيورة الانتباه الى أن الأفكار التي طرحها الرئيس الحريري للخروج من المأزق الرئاسي لا تزال موجودة، «ونحن اتفقنا مع «القوات» على أن يحترم كلٌ منا خيار الآخر في هذا المجال»، مشيرا الى أن النقاش سيستمر حول مفهوم التسوية المطلوبة.
وقال مصدر قيادي في «القوات اللبنانية» لـ «السفير» إن الاختلاف الذي حصل مع «تيار المستقبل» حول مقاربة مبادرة ترشيح فرنجية، كاد يتحول الى خلاف، فكان لا بد من إعادة تفعيل التواصل لمنع تدحرج العلاقة في اتجاه سلبي، من دون أن يعني ذلك أن «المستقبل» تخلى عن مبادرته أو أن «القوات» تراجعت عن رفضها لها، «علما أن هناك مساحات واسعة ومشتركة للتوافق والتعاون في قضايا أخرى».
وشدد المصدر على ان «القوات» تعتبر أن المطلوب إيجاد تسوية وطنية شاملة وفق حد أدنى من الأسس السياسية الجوهرية، لا تسوية ظرفية حول اسم هذا المرشح أو ذاك الى رئاسة الجمهورية، مؤكدا أن أي اتفاق لا يكون قانون الانتخاب الحجر الأساس فيه لا معنى له وسيكون ساقطاً بالنسبة الى «القوات».