بين صقيع كانون وثلجه وحر آب وشمسه، أمضى الجنود اللبنانيون الذين احتجزتهم جبهة "النصرة" في جرود عرسال 487 يوماً من الأسر تحت التراب. هم تعبوا كثيراً ومروا بصعوبات كبيرة وذاقوا لوعة التأرجح على حافة الموت والحياة، فبأي حال نفسية عاد هؤلاء الجنود الى عائلاتهم ومؤسساتهم ووطنهم؟ ماذا عن حال الخوف التي يمكن أن تكون مسيطرة على مشاعرهم حتى ولو بعد إطلاق سراحهم، وماذا عن ضرورة إخضاعهم لعلاج نفسي؟
من المؤكد أن هؤلاء الجنود يحتاجون الى إعادة تأهيل عسكرياً ومعنوياً. وبحسب مصدر عسكري فإن الطب النفسي موجود أساساً ضمن الطبابة العسكرية لكن يجب تقييم الحالات منفردة لدى عودتهم الى خدمتهم الفعلية، علماً أن الوقفة الوطنية الى جانبهم تشكل الدعم النفسي الأول، إذ يكفيهم الخوف الذي عاشوه من جراء انتظار دورهم بالإعدام.
تقول اختصاصية علم النفس العيادي جوزيان عقل إن "الجنود المحررين يحتاجون إلى وقت يجلسون فيه مع أنفسهم منفردين كي يتمكنوا من التأمل بما حدث معهم، وعلى الأهل أن يعرفوا كيف يتعاملون معهم، ويجب ألا يطرحوا عليهم أسئلة تذكرهم بما حدث. ومن الضروري عدم إجبارهم على الكلام حين يصمتون". وتضيف عقل: "من المرجح أن يتكلموا كثيراً أو أن يصمتوا كلياً، ومن غير الطبيعي أن يعودوا فجأة طبيعيين، إذ عليهم أن يخرجوا من الحالة تدريجياً، لأنه من الصعوبة أن يجتاز من يشاهد رفاقه يعدمون أمامه، وهو انتظر لأكثر من سنة السكين أو الرصاص أن يقاوم الذكرى المريرة".
تشرح عقل عن ظاهرة شكر العسكريين لخاطفيهم فتقول إن الصدمة النفسية قد تجعلهم "يقبلون" يد الجلاد لاعتقادهم بأنه قد وهبهم الحياة من جديد، وهذه الظاهرة معروفة عالمياً تحت اسم "متلازمة ستوكهولم"، وهو المصطلح الذي يطلق على الحالة النفسية التي تصيب الفرد عندما يتعاطف مع عدوه أو من أساء اليه بشكل من الأشكال أو يظهر بعض علامات الولاء له، والمصطلح بدأ بالانتشار عندما سطت مجموعة من اللصوص على مصرف في ستوكهولم عاصمة السويد واتخذوا عدداً من الموظفين رهائن لمدة ستة أيام. وخلال تلك الفترة بدأ الرهائن يرتبطون عاطفياً مع الجناة وقاموا بالدفاع عنهم بعد إطلاق سراحهم.
يحتاج المحررون وقتاً للاعتياد على أهلهم وعلى من حولهم. فهم عادوا الى الحياة من بعد شعورهم بالموت في أي لحظة، ثم تأتي مهمة الدولة والمؤسسات التي ينتمون اليها بالتدقيق والتحقيق معهم في ما يقولون ويتصرفون، وقد أخضع الجيش مؤخراً أحد العسكريين المحررين لفحوصات نفسية بعدما شكا أهله من تصرفات غريبة ليتبين أنه يعاني من مرض الرهاب والاكتئاب وعليه تقرر وضعه تحت المراقبة.
معضلة أخرى تنتظر العسكريين المحررين وهي أحقية عودتهم الى الخدمة العسكرية. فثمة من يرجح أن تتم عملية تسريحهم من السلك سنداً الى بند من القانون العسكري ما زال مبهماً يتعلق باستغناء الدولة عن خدمات العسكريين الذين تفوق مدة أسرهم لدى العدو ثمانية أشهر، لكن في المقابل لا يتحدث قانون الدفاع الوطني والنظام العسكري العام ونظام قوى الأمن الداخلي عن تسريح العسكري من الخدمة في مثل هذه الحالة. وتؤكد مصادر عسكرية أن لا تسريح للعسكريين المحررين الذين فك أسرهم وسيبقون في الخدمة الفعلية الا إذا أرادوا هم ذلك. فالتسريح سيكون مجحفاً بحقهم لأن الغياب لم يكن بارادتهم بل جاء نتيجة ظروف قاهرة، والأهم أنهم لم يكونوا في الأسر لدى "عدو" بالمعنى التقليدي للكلمة.
لبنان 24