لم يعد الصراع السعودي ـ الإيراني مقتصراً على ساحات المنطقة، بل تعدّاها ليطال باكستان في شبه القارة الهندية في تطور نوعي لافت. ولئن ارتبطت السعودية وباكستان بعلاقات تاريخية «خاصة» منذ قيام الباكستان في الأربعينيات من القرن الماضي، إلا أن تغير موازين القوى في الشرق الأوسط وفي شبه القارة الهندية يجعل ما استقر من ثوابت في السياستين الخارجيتين لكل من الرياض وإسلام آباد موضع تساؤل. قبل عقد من الزمان، كان مستوى العلاقات المتميّز يسمح من حيث المبدأ بمناقشة فرضية أن الباكستان ستقدّم الدعم للسعودية في حال قررت الأخيرة امتلاك برنامج نووي، إلا أن الامتناع الباكستاني عن المشاركة في الحملة السعودية الأخيرة على اليمن يشكل سابقة يُرجّح أن تتكرر في السنوات المقبلة، بسبب الحسابات المتغيرة للطرفين في ملفات مختلفة.
علاقات تعاون تاريخية
احتفظت الرياض وإسلام آباد بعلاقات تاريخية وثيقة، حيث قدّمت السعودية «الشرعية المعنوية» الإسلامية لباكستان، التي كان الدين الإسلامي مبرّر انفصالها ومسوغه عن الهند. ولم يقتصر الدعم السعودي على ذلك فقط، بل وصل إلى تقديم مساعدات مالية ضخمة لتطوير الجيش الباكستاني، خصوصاً برنامجه النووي، واستضافت السعودية أكثر من مليون عامل باكستاني على أراضيها. في المقابل، لعبت باكستان دوراً محورياً في تشكيل التصورات السعودية الخاصة بأمنها الإقليمي على مدار العقود الخالية، بالنظر إلى القدرات العسكرية الباكستانية الضخمة. ويُمثل التعاون السعودي ـ الباكستاني لتمويل المجاهدين الأفغان وتدريبهم ضد الاتحاد السوفياتي السابق خلال عقد الثمانينيات من القرن المنصرم، أوج قوة العلاقات الخاصة التي جمعت الطرفين. وذهب انسحاب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان وتفككه لاحقاً، عَلَمَاً على قوة هذه التحالف السعودي ـ الباكستاني وعلى قدرة الطرفين على صياغة الأمن في الشرق الأوسط الموسّع، تحت المظلة الأميركية. وفي التسعينيات من القرن المنصرم، استمرت معادلة العلاقات السعودية ـ الباكستانية قائمة على أساس توفير الحماية والمساندة العسكرية الباكستانية في مقابل المساعدات المالية السعودية. وخلال حرب تحرير الكويت العام 1991، كانت هناك قوات باكستانية لحماية الأراضي المقدسة في السعودية، بحيث شكلت باكستان رديفاً مستديماً لقدرات المملكة الدفاعية. واستمر المستوى العالي من التعاون السعودي ـ الباكستاني، مع وصول الاحتجاجات إلى البحرين في إطار «الربيع العربي»، إذ قدمت «مؤسسة الفوجي» الباكستانية القريبة من المؤسسة العسكرية آلاف الخبراء العسكريين السابقين كمستشارين في الشؤون الأمنية لمساعدة حكومة البحرين على مواجهة الاحتجاجات.
الحرب في اليمن: جرس إنذار
برغم العلاقات التاريخية بين السعودية وباكستان، فقد قررت الباكستان الامتناع عن التدخل البري في اليمن إلى جوار القوات السعودية، في ما بدا مفاجأة لكثيرين في دوائر صنع القرار السعودية. ويعود الامتناع الباكستاني إلى رغبة إسلام آباد في موازنة علاقاتها بين السعودية وإيران، والتدخل في اليمن إلى جانب السعودية كان سيُسمّم علاقاتها مع طهران. كما أن العديد من المواطنين الباكستانيين الشيعة يتعاطف مع الحوثيين في اليمن، ما يعني احتمال قيام اضطرابات طائفية في الباكستان في حال شاركت في الحرب البرية. وبالإضافة إلى ذلك، فقد جاءت الحرب السعودية في اليمن في وقت ركزت فيه القوات المسلحة الباكستانية على عمليات مكافحة الإرهاب على طول الحدود الباكستانية ـ الأفغانية، ما يعني تشتيت الجهد العسكري عند فتح جبهات جديدة. وبرغم الخلاف الواضح بين الرياض وإسلام آباد حول اليمن، ترتئي الرياض أن لا مصلحة لها في تبريد العلاقات مع باكستان، خصوصاً مع الضغط الإعلامي الذي تتعرّض له الرياض دولياً وأوروبياً وإقليمياً. وبسبب عدم مشاركة باكستان في الحرب في اليمن، يمكن لإسلام آباد القيام بأدوار وساطة مستقبلية في اليمن على غرار قوات فصل أو حفظ سلام. في المقابل، لا تريد باكستان أن تترك السعودية للهند بالكامل، برغم تنامي العلاقات السعودية ـ الهندية في السنوات الأخيرة. لذلك، فهناك مصلحة مشتركة باكستانية ـ سعودية في ترميم العلاقات بينهما على خلفية الحرب في اليمن، لكن العلاقات الخاصة التي جمعتهما لم تعُد على الأرجح، كما كانت بسبب عوامل أخرى.
باكستان بين السعودية وإيران
مع احتدام الصراع بين السعودية وإيران، تكتسب باكستان أهمية خاصة من المنظار السعودي، بسبب الحدود الطويلة المشتركة بينها وبين إيران، والتي تملك القدرة النظرية على إشغال إيران من ناحية حدودها الجنوبية. ولأن باكستان هي الدولة الإسلامية الوحيدة التي تملك سلاحاً ذرياً، فقد كان مفيداً للرياض في مراحل التصعيد الإعلامي مع إيران التلويح بورقة المظلة النووية الباكستانية لها. لكن إبرام الاتفاق النووي بين إيران والدول الست الكبرى، خلط الأوراق والحسابات الإقليمية؛ وبالأخص منها الحسابات الجيو ـ اقتصادية لباكستان إزاء كل من الرياض وطهران. كان من تبعات الصراع السعودي ـ الإيراني في العقد الأخير على صعيد الحسابات في كل من الرياض وإسلام آباد، أن لعب كل من الطرفين على تناقضات الآخر ليزيد من «دلاله» عليه، فكان أن عمّقت الرياض علاقاتها مع الهند، والشيء نفسه فعلته باكستان مع إيران. وأثار حفيظة باكستان أن السعودية أخذت في تطوير علاقاتها مع الهند منذ العام 2006، عندما زار العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز الهند ووقّع معها «إعلان نيودلهي» للتعاون الأمني بين البلدين. وفي العام 2010 زار رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ الرياض ووقع مع الملك الراحل «إعلان الرياض» للتعاون في مكافحة الإرهاب. وفي العام 2012، قامت السعودية بتسليم الهند المشتبه فيه بتفجيرات نيودلهي ذبيح الدين أنصاري، الذي أقام على أراضيها برغم كونه يحمل جواز سفر باكستانياً. وتتخوف إسلام آباد من أن التزايد المضطرد في التبادل التجاري السعودي ـ الهندي يمكن أن يؤثر على نظرة السعودية للباكستان كحليف استراتيجي على المدى الطويل، لأن حجمه وتنوعه يفوقان التبادل التجاري السعودي ـ الباكستاني بأشواط.
في المقابل، تتشجع الآن باكستان، الفقيرة بموارد الطاقة، إلى التعاون مع إيران الغنية بهذه الموارد، خصوصاً بعد إبرام الاتفاق النووي بين إيران والغرب. ولأن الصين لها نفوذ كبير في باكستان منذ عقود بسبب العداوة الصينية ـ الهندية، بحيث تزمع الصين تشييد ممر اقتصادي يربط ميناء غوادار الباكستاني بالصين لتشديد الحصار الصيني على الهند. وفي إطار صفقة تقدر بحوالي 46 مليار دولار استثمارات صينية في باكستان، يأتي بناء خط أنابيب يربط الميناء الباكستاني المذكور بحقول الغاز الإيرانية في الخليج العربي، يتم الانتهاء منه نهاية العام ما بعد المقبل 2017 في إطار خطة صينية أوسع، وهو أمر يجعل السعودية غير قادرة على الاعتماد على باكستان كحليف موثوق على المدى الطويل.
الخلاصة
أظهرت التطورات الإقليمية في الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية أن الحرب في اليمن ليست نقطة الخلاف الوحيدة بين الرياض وإسلام آباد، بل إن الفترة المقبلة ستشهد تباينات أكثر في رؤية الطرفين وحساباته. وبسبب تنامي التعاون السعودي ـ الهندي؛ فستحاول الباكستان الحفاظ على نوع من التوازن الصعب بين الرياض وطهران. كما أن التوجه الباكستاني شرقاً نحو الصين يبدو خياراً شبه حتمي لإسلام آباد على خلفية صراعها التاريخي مع الهند، وفي ضوء التقارب السعودي ـ الهندي. راهناً، تفترق الحسابات بين الرياض وإسلام آباد على المستوى الدولي الأوسع، إلى حد نقيض ربما من زمن التعاون السعودي ـ الباكستاني في دعم المجاهدين الأفغان تحت المظلة الأميركية. لم يعد الاصطفاف الدولي بين الشرق والغرب قائماً، وبالتالي، فقد زالت إحدى أهم المواد اللاصقة التي جمعت مصالح البلدين. كما أن ظهور التنافس الصيني ـ الأميركي والصيني ـ الهندي يقيد خيارات الباكستان إلى حد كبير، ويجعل علاقاتها مع السعودية خاضعة إلى حد بعيد لموجبات تحالفاتها الدولية. وبرغم من أن الهند لن تستطيع الحلول محل باكستان في إدارة الرياض لعلاقاتها الخارجية بسبب البعد الديني وعوامل أخرى كثيرة، إلا أن رفع العقوبات الاقتصادية على إيران بعد إبرام الاتفاق النووي سيفتح الآفاق بدوره لتطور العلاقات الهندية ـ الايرانية، ما سيؤثر بالتبعية على نظرة الهند للسعودية باعتبارها «الشريك الاستراتيجي» في منطقة الخليج. في كل الأحوال، تشير المؤشرات متوسطة المدى إلى أن «العلاقة الخاصة» التي ربطت السعودية وباكستان قد أصبحت ربما أمراً من الماضي.