قصة موت معلن" هو عنوان رواية يستهلها الروائي اللاتيني ماركيز بعبارة تعلن مقتل البطل.هي من عدة فصول، كل منها يشهد القتل من زاوية. يدخل القارئ إلى أول كل فصل محمولاً بالأمل في أن ينجو البطل، وبراعة الراوي تجدد الأمل مع كل فصل. ولمن لم يتسن له الاطلاع على النص الروائي الجميل والمشوق، لن أقول عن البطل إلا أنه لبناني من جيل المهاجرين الأوائل إلى أميركا اللاتينية.
الحراك المدني بطل روايتنا. بعضهم جزم بموته من غير أن ينتظر مشهداً جديداً، فيما آخرون اغتبطوا أو ضحكوا في سرهم ابتهاجاً. وفريق ثالث دفعه خوفه على الحراك وغيرته عليه إلى الاكتفاء بطرح التساؤل عن مصيره، مضمراً أمله بأن يراه حياً في أول المشهد القادم، وبألّا تشبه نهايته "نهاية رجل شجاع" (عنوان رواية لحنا مينه). ومنهم من أعاد أسباب المشهد الضبابي إلى غياب القيادة أو إلى غياب الأحزاب الوطنية وإلى تدهور الحال من الطائفية إلى المذهبية.
ما حصل بين تموز وأيلول من هذا العام ليس سوى مشهد من مشاهد الرواية، رواية الحراك الشعبي اللبناني الذي بدأ في سبعينات القرن الماضي، معلنا مقتل النظام. اسدلت ستارة الحرب الأهلية على مقتل البطل، ثم ما لبث أن عاد حياً وشجاعاً في المرة الأولى خلال مواجهة الاحتلال الاسرائيلي، وفي المرة الثانية ضد الوصاية السورية، وثالثة ورابعة ضد نظام المحاصصة.
انتصاره رهن بصحة التشخيص وبوضوح الهدف. حصل ذلك مرتين، في الأولى تمكن من دحر الاحتلال وفي الثانية أخرج نظام الوصاية، وفي المرتين كان الخطر خارجياً، وفي المرتين أصاب في تشخيصه فنجح العلاج. وفي معاينة الخطر الداخلي كان يتفرق الشمل، مرة تمثل له الخطر في النظام الطائفي، وأخرى في التفاوت الطبقي، وثالثة في توزيع الصلاحيات الرئاسية، ورابعة في الانتماء الوطني أو القومي أو الديني. ومع كل تشخيص مغلوط وصفة مغلوطة أيضاً، ونهايتها غير سعيدة، ثم عودة غير مظفرة إلى البداية، من غير أن ينتبه اللاعبون إلى أن عدم التقدم ليس فقط مراوحة في المكان، بل تراجع متسارع إلى الهاوية. هذا تماماً ما حصل حين تدحرجت كرة الأزمة من الطائفية إلى الصراع داخل كل طائفة ثم إلى المذهبية. ذلك لأن الخطر يكمن في مكان آخر.
لقد جربت الحركة الشعبية كل التشخيصات والعلاجات، لكنها لم تتعلم حتى الآن من دروس حروبنا الأهلية أن مكمن الخطر الأول داخلي، وأن المخاطر الخارجية لا تجد سبيلا لها إلا من خلال أطراف الداخل. هذا ما فعله اليمين أو اليسار بتحالفه مع قوى خارجية قريبة وبعيدة، عدوة أو صديقة، ليستقوي بها بعضه على بعضه الآخر.
على أن الدرس الأهم الذي عليها أن تتعلمه هو أن الخطر الداخلي يكمن في الاستبداد الصريح المعلن المجسد في كل أنظمة الوراثة المنتشرة حولنا، أو الاستبداد المموه كما هي الحال في لبنان وبلدان أخرى تختار حكامها شكلياً في صناديق الاقتراع وعملياً عن طريق الوراثة، وتستبعد من قاموسها مسألة تداول السلطة، وتستخدم للتمويه كل ما يمكنها من تزوير الإرادة الشعبية عبر قوانين انتخابية تعتمد إقصاء الأقليات وآليات المحادل. الاستبداد الصريح في الأنظمة العسكرية، والمقنّع كما في لبنان، الذي تتوارث الحكم فيه، منذ الاستقلال، مجموعة من العائلات. الاستبداد هذا هو القاسم المشترك من أفغانستان شرقاً حتى الجزائر في الغرب، ومن روسيا شمالاً حتى اليمن والصومال في الجنوب.
الحراك المدني اللبناني كان ينجح في كل مرة يعمل فيها على حشد القوى الشعبية بتحريضها على فساد النظام، وكان يفشل حين لم يكن يصيب في تحديد بؤرة الفساد، أو حين لا يركز على بؤرة واحدة أو على البؤرة الأساسية، فيتوزع الفرقاء ويصوب كل على مصدر للخطر لا يصوب عليه سواه، وتتشتت الجهود وتتفرق القوى ويسدل الستار على مشهد جديد.
إذا كان الخطر الأساسي الداخلي يكمن، كما هي الحال في كل بلدان الربيع العربي، في الاستبداد، فإن ذلك لا يعني إلغاء مخاطر الصهيونية والاستعمار والتفاوت الطبقي، ولا خطر القوى الخارجية الجاهزة دوماً للتدخل أو للاستدراج. غير أن خطر الحكم الوراثي يتفاقم في لبنان بتواطؤ بين أهل الحكم يتحاصصون بموجبه ثروة البلاد المالية والبشرية وإدارات الدولة، وتتناوب قوى السلطة والمعارضة فيه على استدراج الخارج بعضها ضد البعض الآخر، كل ذلك باسم الأديان والطوائف التي لا تجني من سياسة المحاصصة ونهج الاستتباع غير الاحتقان الديني والمذهبي وتنظيم الحروب الأهلية.
السبيل الوحيد لرد هذه المخاطر على أنواعها، هو نضال الحراك المدني ضد انقساماته وشرذمة صفوفه وتبعثر قواه، ومن أجل توحيد جهوده لتشكيل قوة ضغط على أهل السلطة، تحت راية واحدة يختصرها مطلب واحد هو احترام الاستحقاقات الدستورية وعدم انتهاك القوانين وحماية السيادة الوطنية على الحدود وداخل الحدود، تحت شعار واحد هو: الشعب يريد تطبيق النظام .