لعل المغزى الفعلي الوحيد والناتج العملي الأهم لإنعقاد مؤتمر المعارضة السورية في السعودية هو ان المملكة تود ان تصبح قائدة للثورة السورية، تشرف بشكل رئيسي ومباشر على دفعها الى بر الامان الذي لا يعرف أحد حتى الان، ما هو هذا البر ولا أين يقع.
وقد تكون المرة الاولى في تاريخها التي تتولى المملكة مهمة قيادة ثورة شعبية مسلحة على نظام دكتاتوري، بعدما ساهمت في مراحل عديدة سابقة في ثورات معاكسة او إنقلابات مضادة، من دون ان تكون في مواقع متقدمة او حتى معلنة، وكانت تخرج من تلك التجارب، من دون أي أثر، ومن دون اي ضرر.. عدا الحروب اليمنية المتكررة التي شارك فيها السعوديون، وكانت ولا تزال وستبقى عبئاً سعودياً ثقيلاً.
هذه المرة، ثمة تحول جوهري في سلوك السعودية التي لم تستسغ أيا من الثورات الشعبية التي انفجرت في عدد من البلدان العربية منذ اواخر العام 2010، وظلت وفية للانظمة المستهدفة بتلك الثورات، حتى وقت متأخر جدا، يمكن في الحالة السورية ان يقف عند الصيف الماضي عندما استقبلت مدير المخابرات العامة في النظام السوري اللواء علي المملوك، في خطوة مذهلة، ما زالت تثير الكثير من الجدل وعلامات الاستفهام، على الرغم من ان المسؤولين السعوديين اعترفوا بانها كانت غلطة لن تتكرر.
انعقاد المؤتمر في السعودية يثبت ذلك الاعتراف، وينبىء بان السعودية قررت التخلي نهائياً عن النظام السوري الذي ظلت تنصحه ب”تصويب مساره”حتى منتصف العام الماضي، وما زال بعض مسؤوليها يتوقعون ان “يعقل بشار” يوماً ماً، وينفصل عن حليفه الايراني!، ويعود الى حضن أمته التي يمكن ان تفتح له على الفور ثلاث أو اربع عواصم عربية غير الرياض، أهمها القاهرة المستعدة دائما للانفتاح على نظامه وتجديد اللقاء بينه وبين قرينه نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي.
المؤتمر السوري يمثل إنعطافة مهمة في السياسة وفي التجربة وحتى في الثقافة السعودية. لكنه لا يقدم أدلة كافية على ان المملكة يمكن ان تمضي قدماً في هذا الطريق حتى النهاية المنشودة، بحيث لا تتحول التجربة السورية بإدارتها الى ما يشبه التجارب اليمنية التي لا تضاف أي منها الى الرصيد السعودي، لا سيما التجربة الراهنة التي لم تحقق أي نجاح يذكر سوى الحد من التوسع الايراني.
لعل هذه الانعطافة تحسم جدلاً داخل السعودية حول سوريا والموقف من النظام ، لكنها لا تعد بتوفير شبكة أمان للثورة السورية التي تواجه منذ اللحظة الاولى وحتى الان غالبية دولية تنبذها وتشكك بها، وتفضل التعامل مع الشيطان الذي تعرفه بدلاً من الشياطين التي أطلقها، وباتت تحجب المشهد السوري وتختزله الى عنف ينتمي الى مجاهل التاريخ.
قد يكون المؤتمر مجرد بداية لمغامرة سعودية استكشافية، يمكن ان يكون لها صداها السوري الفعال، وأثرها الايراني المدوي، لكن موقع المملكة ووزنها يحتمان السؤال عما زرعته ثم حصدته من علاقاتها ومشاوراتها مع العواصم الكبرى المعنية بالازمة السورية، مثل واشنطن التي يبدو ان الرياض لم تستخدم حتى الان نفوذها لوقف الرهان الاميركي الضمني على النظام السوري، او مثل باريس ولندن وبرلين التي اكتشفت مع الاميركيين مؤخرا تنظيم “داعش”، باعتباره العنوان الاول والاوحد للحرب في سوريا..
اما السؤال او ربما اللغز الأهم الذي يطرح في هذا السياق فهو عن العلاقات السعودية التي إرتقت في الاشهر القليلة الماضية الى مستوى تاريخي غير مسبوق مع موسكو، وهي ما زالت توصف اليوم من قبل المسؤولين السعوديين بانها “ممتازة”، على الرغم من الصواريخ التي تنهمر منذ اكثر من شهرين على رؤوس السوريين، بما يترك الانطباع بان الروس حصلوا على مباركة او على الاقل موافقة سعودية قبل ان يقرروا شن حملتهم العسكرية الحالية على معارضي النظام السوري كلهم. وفي الغرف المغلقة يتردد ان روسيا أبلغت المسؤولين السعوديين بالحملة وموعد البدء بها وأهدافها..الى حد ان نظرية التواطوء الروسي السعودي في سوريا لم تسقط من الحساب نهائيا!
ثمة لغز آخر، يثير حيرة أشد، وهو ان الرياض تصر على الجفاء او الاختلاف مع تركيا التي لا بد ان المسؤولين السعوديين يدركون انها القاعدة الأهم والأفعل للثورة السورية وكل ما عداها من قواعد متاخمة للحدود السورية، لا سيما الحدود مع الاردن او لبنان والعراق هي إما مغلقة او منضبطة. الافتراض ان الرياض تود من المؤتمر ان يكون فرصة لانتزاع الورقة السورية من يد الاتراك، لا يعني سوى نكسة جديدة للثورة السورية، وخسارة متبادلة للسعودية وتركيا..أمام ايران.
المقياس الوحيد لنجاح المؤتمر السوري هو ان يساهم في الاجابة على هذه الاسئلة، وتفكيك تلك الالغاز..لان بقية القصة معروفة: المؤتمر سيؤكد ان المعارضين السوريين ما زالوا مختلفين على جنس الملائكة.