فظيع هذا الإتهام الذي يتنامى بشكل دعائي وسطحي ومفاده أن المسلمين يريدون إختيار الرئيس المسيحي. فهو اولاً إتهام ينطوي على إفتراض أن رئيس الجمهورية يختاره المسيحيون وحدهم أو يرجحون إختياره، خلافاً لكل وقائع التجربة الرئاسية في لبنان، منذ الاستقلال حتى اليوم، حتى في عز المارونية السياسية، بخلاف واقعة إنتخاب الرئيس الشهيد بشير الجميل.
ويبالغ المسلمون في لبنان في لعبة التساهل، حياءً وخبثاً، حين يجيّرون للمسيحيين الاتفاق على إسم الرئيس العتيد، لأن الإنسداد الذي وصلنا اليه على مستوى الاستحقاق الرئاسي والذي كسرته المبادرة "الصامتة المدوية" بترشيح الوزير سليمان فرنجية، يعود في العمق الى هذا الافتراض المسيحي، وذاك التساهل الاسلامي.
إفتراض المسيحيين أن إنتخابات الرئاسة شأن مسيحي، وتساهل المسلمين مع هذا الافتراض، أوصل الى تطاحن ماروني ماروني علق الرئاسة وسمح لحزب الله وسلاحه أن يحظى بمساحة مثالية للنفاذ الى لعبة الفراغ في النظام السياسي وفي الحياة الوطنية.
الانصاف يقتضي القول إن الفراغ الرئاسي اليوم سببه الرئيسي إصطدام معادلتي الدكتور سمير جعجع والجنرال ميشال عون بالحائط. خاض الجنرال معركته ولا يزال على قاعدة “أنا او الفراغ” وخاضها ويخوضها جعجع على قاعدة “الفراغ ولا عون”. أما التسريبات عن إستعداده لترشيح عون بغية تعطيل ترشيح فرنجية فهي في أحسن الحالات مناورة لإستدراج العروض وفي أسوئها كيدية سياسية، اذا كيف يمضي الان بعون من لم يقبل النقاش بإسمه قبلاً؟ ولماذا لم يجرِ التفاهم قبلاً بين الزعيمين المسيحيين إما على أحدهما وإما على ثالث يطرحانه على الرأي العام اللبناني؟ إن كنت أميل الى الظن أن الدكتور جعجع لن يمانع الاتفاق على إسم ثالث، لكن لا يفوتني أنه لم يفعل شيئاً يذكر في هذا السياق لإستمالة رأي عام مسيحي ولبناني ناحية اسماء وسطية تغري الرأي العام وتحرج الجنرال.
مشى الرئيس سعد الحريري بترشيح الدكتور جعجع الى جلسة إنتخاب لم تمنحه أكثر من ٤٨ صوتاً، مرشحة لأن تصل بأحسن الحالات الى ٥٧ صوتاً، أي دون الأصوات ال ٦٥ التي يحتاجها في الدورة الثانية لو تسنى إنعقادها. وكاد أن يسير بالجنرال عون لولا إعتراضات كثيرة أبرزها الاعتراض القواتي، ولي صولات وجولات في تلك المرحلة مع زملاء وأصدقاء و”رفاق” ممن إتهمونني بالجنون لمجرد التفكير في الأمر، فيما هم اليوم من أبرز زوار الرابية ومحاوريها ومصارحيها وناقلي الرسائل منها واليها. لا أقول ذلك من باب الطعن فيهم بل من باب التذكير إن نفعت الذكرى.
ثم بعد كل ذلك، وبعد سنة وسبعة أشهر بدا أن الرئيس الحريري مستعد للسير بالوزير فرنجية مرشحاً، بغية إختراق الفراغ، بتسوية سياسية ليس بين زعيمين مارونيين بل بين طرفي الانقسام السياسي في لبنان. اي نقل التوازن السياسي القائم خارج النظام الى داخله. والمفارقة أن الحريري وفرنجية إتهم بالخيانة ضمناً او تصريحاً، كلٌ من فريقه السياسي وجمهوره، بشكل كشف الرهانات العميقة على لعبة الفراغ من مواقع مختلفة ولحساب أجندات متنوعة بل متناقضة. بدا الجميع يرعى في حقل الفراغ الذي تجرأ سعد الحريري على سحب الجميع منه.
الحقيقة الصادمة أن الحريري يواجه مع القوات اللبنانية ما واجهه والده مع الوصاية السورية. تخيلوا! كان ممنوعاً على الرئيس الشهيد رفيق الحريري أن يتمدد خارج الزعامة السنية المجتزأة والمرسومة له في بيروت ومقعد النائب بهية الحريري في صيدا.
يواجه سعد الحريري مع القوات، منذ قانون اللقاء الارثوذوكسي (وليس المقام هنا لاستعادات سلسلة التخليات) وحتى التمترس المذهبي في مواجهة إنتخاب فرنجية، اعتراضاً قواتياً على زعامة الحريري خارج طائفته أو حتى على المبادرة خارجها. والمضحك المبكي أن من يهولون عليه بالتضعضع في قاعدته، يرفضون الاعتراف لأنفسهم اولاً، أن جزءاً كبيراً مما يسمى التضعضع سببه رفض الحريري السير خلف الخيارات القصوى في طائفته على قاعدة “الجمهور عاوز كده”. ويرفضون الاعتراف لأنفسهم أولاً، أن الحريري يرفض أن يكون زعيماً سنياً في لبنان.
كان يمكن للاعتراض على ترشيح فرنجية أن يكون منطقياً لو خيضت المعركة في وجهه من مساحة وطنية، واستدرجت استنفاراً وطنياً وليس حزبياً فقط. وأقول حزبياً عمداً لأنه حتى اللحظة لا يوجد إستنفار شعبي مسيحي في مواجهة ترشيح فرنجية بل استنفار حزبي قواتي عوني. الكنيسة غير مستنفرة بل تبدو إيجابية “وحبة مسك”. الكتائب تعبر عن إعتراض موضوعي وعاقل ومنفتح على النقاش. المسيحيون ممن يدورون في فلك الحالة العونية ومن غير الحزبيين مصابون بالدهشة من الاعتراض على شخصية عاشوا متحالفين معها عشر سنوات. حتى القوات اللبنانية كانت بدأت حواراً مع فرنجية وقبلت به شريكاً على طاولة الاربعة الكبار وإلتزمت عهد بكركي القائل بأن أياً من الاربعة “مطابق للمواصفات” المسيحية. أما لماذا لم يخض الدكتور جعجع المعركة من مساحة وطنية، وهي هنا ١٤ آذار بكل صراحة، فلأن مسؤوليته ليست قليلة عن ضرب هذه المساحة. وليسمح لي ببعض المصارحة و”ليأخذني بحلمه” رغم معرفتي بكلفة مصارحته. فهو الذي لم تهدأ هجماته على المستقلين، وهؤلاء ليسوا نكرات في مجتمعاتهم ولا زينة على شجرة أحد، وهو الذي ضرب المجلس الوطني لإنتفاضة الاستقلال، برسائل خطية للمعنيين، وهو الذي ذهب للتفاهم مع الجنرال بصفتيهما المسيحية وليس بصفته الـ “١٤ آذارية”! كيف تبقى ١٤ آذار بعد كل ذلك؟ وكيف يتهم الحريري بإهالة التراب عليها؟
أذكر أنه في واحدة من الجلسات التي أشتاقها وسأظل أحن اليها، حكى لي الحكيم قصة عن “أخوت” في قريته كان يجن جنونه ويلحق بالاولاد والفتية رمياً بالحجارة اذا قالوا له كلمة معينة، لا تسعفني ذاكرتي في استعادتها الان، من دون أن يفهم احد لماذا كانت هذه الكلمة تثير غضبه الى ذاك الحد. وسألني لماذا يجن المسلمون مني كلما ذكرت الارثوذوكسي. أجبته بصراحة وحب، لن ينتظر إلاهما مني بالامس واليوم وغداً: لأنك أهنت المسلمين. أهنتهم عندما اعتبروك مع سعد الحريري زعيماً لهم وإذ بك تقول لهم أن تصويتهم لك ينتقص من مسيحيتك وأنك تريد أن تنتخب “بصفاء” مسيحي.
اليوم يحتفي القواتيون بأصوات سنية معترضة هنا وهناك على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنني أسأل هل سيفتح لهم الحكيم ابواب الانتساب الى القوات؟ وإن فعل هل سيعتبر اصواتهم في صناديق الاقتراع اصوات قواتية او اصوات غير مسيحية؟
ثمة في العمق أزمة هوية سياسية بالعلاقة مع القوات. سمير جعجع لا يرتاح الا بكونه زعيماً مسيحياً مفتوحاً على بقية اللبنانيين (بشروط)، فيما سعد الحريري لا يرتاح الا بكونه زعيماً لبنانياً مفتوحاً على بقية السنة.
في خلفيات الاشتباك على ترشيح فرنجية شيء كثير من الاشتباك بين هاتين الهويتين. والسلام!