الكل محرج والكل يراجع خياراته.
لم تجد حركتا 8 أو 14 آذار لحظة سياسية أكثر صعوبة وتعقيداً من تلك التي تعيشها في هذه الأيام.
من يراقب مواقع التواصل الاجتماعي يتلمّس شيئا من هذه الإحراجات السياسية في هذا البيت الآذاري أو ذاك.
غير أن الطامة الكبرى أن الجميع يحلّل ويبني استنتاجات أو يرسم ملامح خيارات استناداً إلى فرضية تبنّي جزء من «14 آذار» وعواصم دولية وإقليمية خيار ترشيح سليمان فرنجية من دون أن يكون هناك أي إطار رسمي لهذه المبادرة.
إذا كان الأمر «غيبياً»، برغم إصرار المعنيين بالترشيح على تأكيد جدّيته العالية، متى يصبح واقعاً ملموساً، أي متى يبادر رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري على إعلان تبنّيه رسمياً للترشيح لكي يكسبه جدّية تخرجه من حدود المناورة ليصبح أمراً واقعاً أمام الجميع، ولماذا لم يبادر إلى ذلك حتى الآن، وما هي الأسباب التي أدت للتأخير، وهل يمكن حصرها ضمن الحدود وتحديداً ترتيب بيت 14 آذار السياسي، أم أن هناك ما استجدَّ سلباً في الخارج؟
حتى ساعة متأخرة من ليل أمس، كان أهل «بيت الوسط» يتصرفون على أن رئيس «تيار المستقبل» لديه ما يقوله في التوقيت الذي يراه مناسباً وهو لن يكون بعيداً (على الأرجح قبل نهاية الأسبوع الحالي)، وهو يأخذ في الاعتبار إقراره الضمني أنه ربما يكون قد قام بـ «دعسة ناقصة». أقلّه، هذا ما يجاهر به أهل بيته: «كان يجدر به أن «يهندس» المبادرة شكلاً ومضموناً حتى لا يؤذيها ويؤذي نفسه وجمهوره والحلفاء، ومن هنا التريث وأهمية صياغة المبادرة بطريقة تؤدي الى حمايتها مجدداً».
«القوات» تبحث عن حماية ووراثة!
تشمل «الحماية» في الوقت ذاته حلفاء الحريري، وخصوصاً «القوات اللبنانية» التي ناقشت على مدى الأيام الماضية خيارات كانت تصطدم كلها بـ «واقعية» رئيسها سمير جعجع وعدم استعداده للخوض في مغامرات غير محسوبة. طرحت في «القوات» أسئلة كبيرة عن العلاقة مع «المستقبل» ككتلة سياسية وطائفية ومع ظهيرها الخارجي (السعودية). أين أخطأنا وأين أصبنا؟ أين نتحمل المسؤولية وأين يتحملها غيرنا؟
من الواضح أن العقل الاستراتيجي في «القوات» يقارب المسألة الرئاسية والكثير من العناوين السياسية من زاوية مسيحية بالدرجة الأولى، وتحديداً وضع «القوات» على سكة وراثة الحالة العونية بعد ميشال عون. «اعلان النيات» خطوة كبيرة لكن هل يمكن أن تكون هناك خطوات أكبر من نوع تبنّي ترشيح «الجنرال».
حسمت هذه النقطة ووصل الصدى الى الرابية. التبني يتجاوز الشخص الى خياراته منذ عقد من الزمن حتى الآن. هل تكون رسالتنا للمسيحيين أن خيارات ميشال عون الاقليمية (سوريا وايران) والداخلية (تفاهمه مع «حزب الله») كانت في محلها، بينما كانت الخيارات المضادة مخطئة؟
اختارت «القوات» حتى الآن الذهاب الى «المنطقة الآمنة»: أن تنسجم مع خطابها بالذهاب الى اية جلسة رئاسية وأن تصوّت لمرشحها، أي أن تحجب أصواتها الثمانية عن سليمان فرنجية ومحاولة استقطاب «الكتائب» وبعض المستقلين الى الخيار نفسه.
أدركت «القوات» أن خيار ترشيح عون يوازي في مضمونه «حرب الإلغاء». الهدف قطع الطريق على زعيم «تيار المردة» طالما أن وصول «الجنرال» مستحيل ليس بإرادة أحد في الداخل إنما بإرادة خارجية عبّرت عنها دوائر فاعلة في فرنسا والولايات المتحدة أكثر من مرة.. والأهم أن تواصل بث الرسائل الإيجابية باتجاه الجمهور العوني..
بهذا المعنى، صار الثابت الوحيد في سياسة جعجع هو قدرته على التكيّف وتعديل الموقف بما يراعي الخط البياني للوراثة في الشارع المسيحي.
«الكتائب» لا تقفل خياراتها
غير أن حسابات باقي حلفاء «المستقبل» تبدو مختلفة عن «القوات». فـ «الكتائب» حسمت.. ولم تحسم خياراتها وخطوطها مفتوحة بطريقة شبه يومية مع «المردة» ومن غير المستبعد أن تحصل مبادرة من بنشعي باتجاه بكفيا «لملاقاتها في منتصف الطريق»، وتحديداً من فرنجية باتجاه المرشح الرئاسي الرئيس أمين الجميل الذي يلتزم الصمت منذ تسريب خبر ترشيح الزعيم المسيحي الشمالي حتى الآن.
حتى أن بعض رموز مسيحيي «14 آذار» المستقلين، وخصوصاً ممن كان مشكوكا بتصويتهم لمصلحة فرنجية، تجاوبوا مع دعوات «المردة» للحوار، وعقدت لقاءات بالمفرق كانت نتيجة معظمها ايجابية حتى الآن.
فقط قنوات الحوار بين بنشعي ومعراب لا تزال مقفلة، علما أنه قبل فترة قصيرة من لقاء باريس عقد لقاء على مستوى اللجنة الثنائية بين الجانبين كان مضمونه السياسي ايجابياً باعتراف «القوات» و «المردة».
غير أن جعجع الذي أوعز بعدم انعقاد أي اجتماع جديد في هذه المرحلة، ينتظر اشارات تأتيه من الخارج لكي يحصّن موقفه ليس فقط بالاعتراض على فرنجية بل بحصوله على ضمانات خارجية تتعلق بمستقبل حزبه.. في ظل احتمال وصول أحد أبرز خصومه السياسيين مسيحياً الى سدة الرئاسة الأولى بمباركة الراعي الاقليمي والدولي لكل «14 آذار»!
«حزب الله» سيد الصمت!
في المقابل، يسجّل حلفاء فرنجية له أنه لم يخطئ بالاستراتيجيا في أي يوم من الأيام، بل على العكس أثبت في كل محطات ما بعد العام 2005 أنه «حليف استراتيجي فولاذي ولا يربط خياراته بمصلحة سياسية أو شخصية». لا يمنع ذلك من الاستدراك والقول بوجوب عدم الاستعجال وعدم حرق الخيارات والأوراق «طالما أنه جزء عضوي من فريق اقليمي ولبناني لا يخفى على أحد أن موازين القوى تتحرك لمصلحته يوما بعد يوم».
لذلك يصبح صمت الحلفاء وتحديدا قيادة «حزب الله» هو عنوان المرحلة، ولن يكون هناك كلام قبل أن تصبح المبادرة رسمية «حتى يبنى على الشيء مقتضاه».
قانون الانتخاب حجر الزاوية
في هذه الأثناء، يبقي سليمان فرنجية قنواته مفتوحة مع الحريري ومع الكثير من القوى في الداخل. تأتيه أصداء يومية مرحّبة من الداخل والخارج، لكنه يعوّل على زيارته القريبة الى الرابية ليس من زاوية اعطاء علم وخبر بل من زاوية أن يكون «الجنرال» شريكا في الخيارات والتفاهمات وهما المصطلحان اللذان يكثر من استخدامهما العماد ميشال عون في هذه الأيام بديلا للصفقات واحتمالات الصدام والمواجهة.
بهذا المعنى، سيعيد فرنجية تصويب بعض الأمور انطلاقا من الثوابت التي وضعها الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله عندما بادر وطرح فكرة التسوية على اساس سلة متكاملة تحت سقف اتفاق الطائف.
لم يعد خافياً على أحد أن حجر الزاوية هو قانون الانتخاب، ليس بما يتضمنه من معادلات حسابية بل بوصفه المدخل لإعادة تكوين السلطة. بطبيعة الحال، يريد فرنجية لـ «الممر الإلزامي» في الرابية أن يكون ممراً للتفاهم بين الطرفين بما يحمي ليس مستقبل هذا أو ذاك، بل حماية للخيارات الاستراتيجية ولما أحدثه ميشال عون من اختراق تاريخي في البيئة المسيحية وتحديدا المارونية. الخرق الذي تبدى في آخر صوره في يوم تنصيب جبران باسيل رئيسا لـ «التيار الحر» في مسرح «البلاتيا» في عمق كسروان معقل موارنة جبل لبنان.
يومها، وصل السفير الايراني محمد فتحعلي متأخرا نحو ربع ساعة، وعندما كان يتقدم نحو مقعده في الصفوف الأمامية، انبرت عاصفة تصفيق استمرت طويلا للضيف الآتي متأخرا وذلك على مرأى من كل الحاضرين هناك وبينهم من كان يمثل «دولا عظيمة» ولم يجد من يصفق له أو يتودد اليه في تلك القاعة الفخمة!
لننتظر زيارة فرنجية الى الرابية!
نعم، يوما بعد يوم، يثبت ميشال عون، أنه ظاهرة سياسية غير مسبوقة في الوجدان المسيحي اللبناني. الوقوف إلى جانب المقاومة و «حزب الله». الدفاع عن المقاومة في فلسطين. القناعة الراسخة بالعلاقة مع سوريا. الانفتاح على إيران. هي ظواهر مسيحية موجودة تاريخيا ولكنها لطالما كانت عاجزة أن تستقطب حالات شعبية كبيرة أو أن تعمر طويلا.
يشعر ميشال عون بأن «حرب الإلغاء»، ضده، لبنانيا وخليجيا وغربيا، لم ولن تتوقف في المرحلة المقبلة، بسبب ثباته على خياراته السياسية، وهي خيارات نجح في استقطاب نصف المسيحيين حولها، في ضوء نتائج كل استطلاعات الرأي حتى الآن.
في مواجهة هذه الحرب، هل يشكل ترشيح سليمان فرنجية في اطار سلة متكاملة حماية للخيارات التي يمثلها «الجنرال» أم أن كل حالة غير ميشال عون ستكون حالة عابرة غير راسخة الجذور مارونيا؟
لننتظر الحوار المقبل بين الرجلين، فاما أن يفتح الأبواب على مصراعيها ويخلط الأوراق ويفاجئ الجميع واما أن يستمر «الجنرال» بترشيحه لمنع وصول غيره وعندها يصبح القول أن سليمان فرنجية سيبقى مرشحا وحيدا حتى اشـعار رئاسي آخر.. ولننتظر بعدها، هل سيكون عامل الوقت المفتوح على مصراعيه، عنصرا ايجابيا أم سلبيا، أو بمعنى آخر، هل سيكون للبنان رئيس في العام 2016 «على البارد» أم «بالدماء» كما قالها أحمد الحريري؟