انّها اعظم حقيقة ثابتة يُشير اليها الخطاب الزّينبي بقولها عليها السلام للطّاغية الارعن يزيد {فوَالله ما فَرَيْتَ الّا جِلْدَكَ، ولا حَزَزْتّ الّا لَحْمَكَ}.
فعلى الرّغم من المعاناة التي يتعرّض لها المظلوم على يد الظّالم، والتي قد تصل حدٍّ انّهُ يفقد حياتهُ ويخسر رُبما أهلهُ وما يملك، الا انّ ارتداد نتائج الظّلم تكون اكبرُ وأشدُّ واقوى على الظّالم نَفْسَهُ، وإذا كان المظلوم يعاني بعض الوقت فان الظّالم يعاني كلّ الوقت، والى هذا المفهوم العميق جداً والذي نبّهتنا اليه عقيلة الهاشميّين يشير القرآن الكريم بقوله {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا* يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا* لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} فلم يصوّر القرآن الكريم حالَ أحدٍ وهو يعضُّ على يدَيه حسرةً وندماً الا الظّالم، ولذلك قال امير المؤمنين (ع) {يَوْمُ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ أَشدُّ مِنْ يَوْمِ الظَّالِمِ عَلَى الْمَظْلُومِ} وقال عليه السلام {يَوْمُ الْعَدْلِ عَلَى الظَّالِمِ أَشَدُّ مِنْ يَومِ الْجَوْرِ عَلَى الْمَظْلُومِ!}.
وفي الحديث عن رسول الله (ص):
انّ الله يُمهلُ الظّالم حتى يَقُولُ قد أهمَلني، ثم يأخذهُ اخذةً رّابية، ان الله حمِدَ نَفْسَهُ عند هلاكِ الظّالمين فقال {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
فاذا سرقَ موظَّفٌ من مُواطِنٍ وأمهلهُ الله تعالى فهذا يعني انّهُ يستدرجهُ حتّى ياخذهُ أخذَ عزيزٍ مقتدر، فاليحْذر.
لقد وصف الله تعالى حال ارتداد الظّلم على صاحبهِ او أصحابهِ بأشدّ العبارات كما في قوله تعالى {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} و {بِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} و {اللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} و {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} و {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} و {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} و {قِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
فعاقبةٌ مثل عدمِ الهداية والفلاح والتّيه والشّقاق وغيرها هي نتائج ارتداديّة طبيعيّة للظّلم على الرّغم ممّا يتمتّع به الظّالم من نصرٍ ظاهرٍ مثلاً او فوزٍ مزعومٍ او غَناءٍ الى فَناء.
لقد ارادت العقيلة (ع) ان تنبّه الطّاغية بانّهُ يُعِدُّ لنفسهِ يوماً مهولاً لا مفرَّ مِنْهُ، وإذا كان يظنُّ انّ النصر المزعوم الذي حققهُ بقتلِ سيّد الشّهداء وأهل بيتهِ واصحابهِ في كربلاء يوم عاشوراء هو نهاية القضية وآخر المطاف فانّما هو يخدع نَفْسَهُ ويُضلّلها، فالحقيقة غير هذا بالمطلق، فهذا النّصر (الظّلم) هو بداية المنحدر الذي سينتهي به الى وادٍ سحيق جداً، في الدنيا بالذّكرى السّيئة وفي الآخرة {إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ!} على حدّ وصف أمير المؤمنين (ع).
هذا يعني ان الظّالم يقدّم لنفسهِ مصيرًا يتناسب وحجم الظّلم والقهر والعُدوان الذي يذيقهُ لضحاياه، فكلّما كان الظّلم اكبر والقهر أشمل كلّما قدّم لنفسهِ يوماً مهولاً بحجمهِ، فعندما قال الحجّاج الطّاغية للشّهيد العظيم سعيد بن جُبير؛ والله لاقتلنّك قتلةً ما قتلها أَحدٌ من النّاس، فاخترْ لنفسِك، قال الشّهيد [بلْ إِختر لنفسِكَ أنتَ القتلة التي تشاء، فوالله لا تقتُلني قتلةً الا قتلكَ الله بمثلِها يَوْمَ القيامة] فالظّالم يقدّم لنفسهِ سوءَ افعالهِ.
فالظّالمُ، تأسيساً على هذا الفهم، لا يُمارس ظلمهُ ضِدَّ الآخر بمقدار ما يمارسهُ ضِدَّ نَفْسهِ، كما يشيرُ الى ذلك امير المؤمنين عليه السلام بقوله {إيّاكَ والظُّلم فانّهُ يزولُ عمّن تظلمهُ ويبقى عليك} لانّه سيواجه عاقبة ظلمهِ وسيدفع ثمن تبعاتهِ ان عاجلاً ام آجلاً، ولذلك ينبغي على الظّالم ان ينتبهَ جيداً الى ما يقدّمهُ لنفسهِ، انّهُ يعدُّ لها حفرةً من النَّار تتناسب وحجم الظّلم الذي يمارسهُ فكلّما كان أَعظم كلّما كانت أكبر، وصدق امير المؤمنين (ع) الذي يقول {إياكَ والظُّلمُ فمَن ظلمَ كرهت أيّامهُ} حتّى اذا تظاهر بالرّاحةِ وإِطمئنانِ البال!.
مشكلة الظّالم انّهُ لا يرى أبعدُ من أرنبةِ انفهِ ولذلك فهو لا ينظر الى عواقبِ الامور عندما يتصوّر انّ الفلكَ يتوقف عند لحظةِ ارتكابهِ الظّلم والجريمة غافلاً عما يعدُّهُ لنفسهِ بظُلمهِ.
ينسى كذلك ان اللّحظة التي يعيشها منتشياً لظلمهِ ضحاياه الذين يعانون، سيعقبهُ زمنٌ ينتشي فيه الضّحايا وهم ينظرونَ اليه يعاني ممّا قدم لنفسهِ بيدهِ.
ولِعِظم الظّلم الذي ارتكبهُ الطّاغية يزيد بحقِّ أهل بيت النبوّة والرّسالة والإمامة والعصمة، بقتلهِ سبطِ رسول الله (ص) وأهل بيته واصحابه وسبيهِ لنساءِ الرّسالة، فلقد شاءت إرادة الله تعالى ان تمتدّ معاناتهِ جيلاً بعد جيلٍ بالذّكر السّيء واللّعن الدّائم، وفي المقابل رفعَ الله تعالى درجة سيّد الشّهداء عليه السلام في الدّنيا بالذّكرى العظيمة والخلود المُعجزة وبشكلٍ لم تشهد له البشريّة مثيلاً، ولعلّ في الصّورة التي شاهِدها العالم خلال أربعين الامام عليه السلام خيرُ دليلٍ وشاهدٍ على هذه الحقيقة.
هذا الدّرس العظيم الذي تنبّهنا اليه عقيلة الهاشميين يلزم ان نضعهُ نصبَ أَعيُنِنا، فكلّما همّ احدُنا بظلمٍ، لا سمحَ الله، ينبغي ان يتذكّر بأَنَّ ارتدادهُ وعاقبتهُ عليه اشدُّ وأقسى، وهو عليه أولاً وقبل ايِّ واحدٍ آخر.
انّ الذين يتورّطون بالفساد وبأيِّ شكلٍ من الأشكال، خاصَّةً الفساد المالي والاداري، انّما سيدفعون ثمنهُ ان عاجلاً او اجلاً، بأنفسهم او باعزّائِهم او بأيِّ شكلٍ من الأشكال، ولهم في الطّاغية الذّليل صدام حسين وكلُّ الطّغاة الظّالمين عِبرة.
على كلِّ مَن يتبوّأ موقعاً في الدّولة مهما كان بسيطاً، ان ينتبهَ الى نَفْسهِ فلا يتجاوز على حقِّ مواطن، فالموقعُ أمانةً بيدهِ، فانَّ ايّة خيانة لهذه الأمانة مهما كانت حقيرةً في نظرهِ، فهي بمثابة (الدَّين) الذي سيدفعهُ من صحّتهِ واولادهِ ومالهِ ان عاجلاً ام اجلاً.
انّ عاقبة التّعدي على حقّ النّاس خطيرة جداً لا يظُنَّنَّ احدٌ انّهُ سيفلت من عقابِها أَبداً، خاصَّةً اذا كان الله تعالى هو وليّ المظلوم من النساء والأطفال والأيتام والأرامل والشهداء {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا}.
انَّ الذي يتجاوز على حقوقِ النّاس يفري جلدهُ، وانّ الذي يمدَّ يدهُ على المال العام بِغَيْرِ حقٍّ يفري جلدهُ، وانّ الذي يُفسد يفري جلدهُ، وإذا لم يشعر الان بذلك فانّ عليهِ ان يتذكّر تجاوزاتهُ وظلمهُ وفسادهُ فيما مضى لحظةَ انْ تحينَ ساعةَ الحسابِ، وصدقَ الله الذي قال {ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} فهذهِ النّتيجة لتلكَ المقدِّمة.