عشرُ سنوات مرت على رحيلك يا جبران، عشرُ سنوات لم يبق فيها، منك، من قضيتك، من قلمك، من حلمك، من لبنانك، من نهارك، من صوتك، من 14 آذارك، من 14 آذارنا، سوى ذكرى فقط، ذكرى بقدر ما كانت جميلة ناصعة وبهية، بقدر ما صارت مرّة ... أليمة وحزينة. للأسف يا جبران، لم يبق من سيادتك وسيادتنا، من استقلالك واستقلالنا، من حريتك وحريتنا سوى شعارات بالية، اتضح بمرور الوقت أنها لم تكن تستحق أن نخسرك، أن نخسر قامة كقامتك أو قامة كقامة رفيق الحريري وسمير قصير وبيار الجميل و و و و … قد تكون الحقيقة قاسية جداً يا جبران، ولكن بعد عشر سنوات على غيابك، لم يبق منك سوى صورة معلّقة على جدران صحيفة لا تشبه صحيفتك، لم يبق من صوتك سوى صدى بعيداً يخرج علينا كل عام مع اقتراب ذكرى اغتيالك. سامحنا … أو بالأحرى لا تسامحنا يا جبران، لا تسامح غباءنا، لا تسامح ضعفنا ولا تسامح نذالتنا، جبران، لا تسامح سعد الحريري وأمين الجميّل ووليد جنبلاط على الاجتماعات واللقاءات، على الحوارات على التسويات، على الصفقات والمساومات على دمك، ودماء كل الأحرار. وحده “الحكيم” يا جبران، لم يخضع لإرادة القاتل والسفّاح، وحده سمير جعجع يا جبران بقي صامداً بوجه الرصاص والعبوات الناسفة والسيارات المفخخة، وحده “الحكيم” يا جبران لم يهادن لم يساوم ولم يناور، وحده بقي وفياً لشعب الرابع عشر من آذار، بقي وفياً لدمك ودماء الشهداء، وحده بقي رجلاً عصياً على الخوف والترهيب … والخيانة. سامحنا يا جبران، لقد كنا نكذب حين ردّدنا خلفك في ساحة الشهداء “نقسم بالله العظيم، مسلمين ومسيحيين أن نبقى موحدين، إلى أبد الآبدين، دفاعاً عن لبنان العظيم”. وبخلاف كذبنا في ذاك اليوم العظيم، نقسم بالله صادقين هذه المرة يا جبران، أنه كلما مرت علينا مباراة بين فريقي “الحكمة” و”الرياضي”، نبشنا كل أحقاد الماضي، نبشنا كل غل الآباء والأجداد، وكل ذكريات الحرب الأهلية البشعة، وعدنا سيرتنا الأولى، جاهليين، لا مسلمين ولا مسيحيين، عدنا منقسمين، متفرقين، طائفيين، مذهبيين، حاقدين … إلى أبد الآبدين. جبران، كنتْ وكنا نحلم بأن نخرج من زمن الوصاية، من زمن المخابرات وصبيانها وأقبيتها، ولكننا خرجنا من رحم الوصاية السورية، وصاية حافظ وبشار ورستم، ودخلنا بإرادتنا في شرنقة الوصاية الفارسية، وصاية المرشد والسيّد، وصاية “الزعران أصحاب القمصان والقلوب … السود”. لم تعد هناك يا جبران جزيرة أمنية بعينها، لبنان بأسره بات سجناً ومربعاً أمنياً كبيراً، لا مكان فيه للكلمة، لا مكان فيه للحرية، ولا لكل ما يمت بصلة لغير زمن الأصنام والعبودية. جبران، قبل تفخيخك وقتلك، كنت وكنا نقاتل لخلع إميل لحود من قصر بعبدا، اليوم وبكل أسف يقف “لحود أكبر” من لحود القديم على أعتاب القصر، وينتظر تتويجه رئيساً صديقاً صدوقاً حليفاً لكبير الطغاة والمجرمين. عشرُ سنوات مرّت على رحيلك على جبران، عشرُ سنوات لم يعد فيها مكان للفرح ولا للأمل ولا للتفاؤل، لم يعد فيها مكانٌ سوى للانتكاسات والخيبات والنكبات، بفعل الحماقات وسياسة التنازلات تلو التنازلات. أما الأسوأ من هذا كله يا جبران، فهو حال “النهار”، جريدتك التي لم تعد جريدتك، ولا جريدتنا، يا حسرة على “النهار” من بعدك يا جبران، لا قلم فصيح ولا ديك يصيح … صحيفة باهتة شاحبة، تحتضر وتكاد تستقيل وتستريح ! جبران، صحيح أن النظام السوري و”حزب الله” قتلوك مرة، ولكن الأصح أن سعد الحريري ووليد جنبلاط وأمين الجميّل، قتلوك، وقتلوا المعلم كمال جنبلاط، وقتلوا رفيق الحريري، وقتلوا سمير قصير، وقتلوا بيار الجميل، وقتلوا وسام الحسن، قتلوك وقتلوهم … وقتلونا عشرات المرات والمرات. سامحنا، لا تسامحنا … ولا تسامحهم يا جبران !
جنوبية