وأخيرا.. عاد العسكريون المخطوفون الستة عشر لدى «جبهة النصرة» من سجن الجرود الى عالم الحرية على متن صفقة «واقعية»، نُسجت بنودها خيطا خيطا وحرفا حرفا، على مدى أشهر طويلة من المفاوضات الصعبة التي تخللتها «حروب نفسية» قاسية.
صحيح ان الصفقة انطوت على كلفة معينة للدولة اللبنانية، باعتبار ان أي عملية تبادل تستوجب في نهاية المطاف تقديم تنازلات، لكن يُسجل للمفاوض اللبناني انه نجح في تحرير العسكريين بأقل الأثمان الممكنة، بعدما وضع سقفا او خطا أحمر للمقايضة، قوامه: لا إفراج عن أي إرهابي محكوم قضائيا او ملطخة يداه بالدم.. وهذا ما كان بالفعل.
لقد ربح أهالي العسكريين الرهان على المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، وربح ابراهيم رهانه على الصبر.
ومع إتمام عملية التبادل، يكون ابراهيم قد حقق الانجاز الثالث من هذا النوع بعد تحرير مخطوفي أعزاز وراهبات معلولا، ليصبح «مرجعية محترفة» في التفاوض، مستندا الى تراكم الخبرات والتجارب، علما ان بعض الاطراف اللبنانية حاولت التشويش على مهمة ابراهيم، في بداية الطريق ومنتصفها، انطلاقا من حسابات وحرتقات ضيقة، تتصل بعقدة الأدوار والأحجام.
وفي توقيت إنجاز الصفقة، يبدو واضحا ان التدخل العسكري الروسي في سوريا أنتج نوعا من «البيئة الحاضنة» لعملية التبادل، بعدما فرض هذا المعطى على المجموعات المسلحة والقوى الاقليمية المعنية، التعاطي بواقعية مع ملف المخطوفين، تحت وطأة التطورات العسكرية وما يرافقها من ضغوط ميدانية.
لكن فرح اللقاء بالأحبة كان ناقصا ومشوبا بالغصة، لان عقد العائدين لم يكتمل، مع استمرار خطف 9 عسكريين موجودين بحوزة تنظيم «داعش»، وفي ظل غياب الشهداء الذين دفعوا ثمن أساليب الضغط والابتزاز المتبعة من قبل جبهة إرهابية، وجدت للأسف من ينصرها ويروج لـ «اعتدالها».
ولعل المشهد الصادم الذي رافق وقائع استعادة المخطوفين هو استعراض القوة العلني والنافر الذي قامت به «جبهة النصرة» - فرع القاعدة في بلاد الشام، بعديدها وعتادها وأعلامها وإعلامها، فوق ارض لبنانية محتلة، على مرأى ومسمع من اللبنانيين ودولتهم، ما شكّل «خطفا» للكرامة الوطنية واستباحة لها في وضح النهار.
وبرغم الانقسامات الداخلية الحادة حول الكثير من الملفات السياسية، فقد تبين، بعد إطلاق سراح المخطوفين، ان قطبي الصراع الداخلي، الامين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله ورئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري، التقيا كلٌ من موقعه، على المساهمة في تسهيل إبرام صفقة التبادل.
وإذا كان من الطبيعي ان يتدخل الحريري لدى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني لتسهيل مهمة ابراهيم وحمايتها من «الانبعاثات المذهبية»، فان المفاجأة تمثلت في الدور الحيوي الذي أداه نصرالله لإنجاح المفاوضات، بعد فترة طويلة من تجميدها، وما استوجبه ذلك من فتح قناة تواصل بينه وبين أمير قطر، برغم خلافهما الاستراتيجي والعميق حول الازمة السورية.
وفي المعلومات، ان الخط المفتوح بين «حزب الله» والدوحة كان حاسما خلال الايام الاخيرة في تخفيض سقف الطروحات التعجيزية المباغتة لـ «النصرة»، وهو الامر الذي أكده ابراهيم لـ «السفير» بقوله ان تدخل نصرالله في ربع الساعة الاخير لدى امير قطر قاد الى «عقلنة» مطالب الخاطفين بعد مبالغاتهم في اللحظات الاخيرة.
والمفارقة في زمن احتدام الاشتباك بين المحاور الاقليمية، ان نصرالله لا يزال يملك من التأثير والرصيد عند القطريين ما يكفي ليتجاوبوا مع المساعي التي بذلها للمساعدة في حل قضية المخطوفين، ويثقوا في الضمانات التي قدمها لحسم بعض البنود مع الاشارة الى انه سبق ان حصل، قبل فترة، اتصال قطري رفيع المستوى بقيادة الحزب في عز الازمة السورية.
ولعل حرص الدوحة على إبقاء الخيوط والخطوط ممدودة مع الحزب، برغم تعارض الخيارات الاستراتيجية، يعكس السياسة القطرية المركبة والتي تنطوي على مخزون من البراغماتية، يجعل الدوحة قادرة على تدوير زوايا مواقفها الحادة او استخدام مخارج الطوارئ الدبلوماسية، عندما تستدعي الضرورة او المصلحة ذلك.
أما الحزب، فهو ايضا من الحريصين على عدم التفريط بعلاقاته العربية، حتى مع الذين يخالفونه الرأي، إلا إذا كان الطرف الآخر هو المبادر الى قطع العلاقة، فكيف إذا كان الامر يتعلق بملف انساني بامتياز، من نوع قضية المخطوفين العسكريين التي دفعت «السيد» الى تجيير وزنه وثقله لحساب هذه القضية، متعاملا معها بالمعيار ذاته الذي يحكم مقاربة الحزب لأسراه.
والى جانب تفعيل قناة الاتصال مع قطر، كان نصرالله يتحرك في الوقت ذاته على خط دمشق، حيث نجح في إقناع الرئيس بشار الاسد في التجاوب مع متطلبات إنجاح مهمة ابراهيم، علما انها ليست المرة الاولى التي يبدي فيها الرئيس السوري مثل هذا الموقف، نزولا عند رغبة «السيد»، إذ سبق له ان ساهم في اكتمال صفقتي تحرير مخطوفي أعزاز وراهبات معلولا عبر الافراج عن عدد من المعتقلين في السجون السورية.
كما ان قرار حزب الله والجيش السوري بالتنسيق مع الروس بوقف إطلاق النار، في جرود عرسال والقلمون، عشية وأثناء تنفيذ صفقة التبادل كان عنصرا حيويا من عناصر إنجاحها.
أما الحريري الذي تُرجح عودته الى لبنان قبل رأس السنة، فقد تمكن الى حد كبير من إجهاض «كمائن التحريض» التي نُصبت على بعض دروب ابراهيم، مساهما في تأمين التغطية الاقليمية والسياسية لتحركه من خلال إبلاغه الامير تميم ان ابراهيم موضع ثقة تامة «بل هو ابن بيت الحريري ونتمنى دعمه ومساعدته»، كما روى مدير عام الامن العام نفسه، الامر الذي سمح بتحصين دوره التفاوضي في مواجهة حملات «التعبئة المذهبية»، وصولا الى تفعيل التعاون بينه وبين المخابرات القطرية.
وفي ما خص الأتراك، تفيد المعلومات ان أنقرة كانت لها مساهمة لوجستية فوق مسرح المفاوضات، عبر استضافتها أكثر من مرة قياديين في «جبهة النصرة»، خلال تفاوضهم مع المخابرات القطرية وابراهيم.
ورحبت وزارة الخارجية الاميركية بإطلاق سراح العسكريين، إلا انها أكدت ان «جبهة النصرة» منظمة إرهابية.
ولا يمكن في معرض سرد الوقائع، إغفال دور الرئيس تمام سلام الذي قاد بكثير من الصمت والصبر «خلية الازمة»، وكذلك دور وزير الداخلية نهاد المشنوق الذي واكب ابراهيم في كل المراحل.
كما ان الجيش اللبناني ترك بصماته على عملية التبادل، سواء من خلال الاجراءات الدقيقة التي واكبت مراحل التنفيذ او عبر مشاركة قيادته في الترتيبات المتعلقة بـ «الممر الآمن» الذي سيكون تحت إشراف الجيش.
ويُسجل للعسكريين المحررين انهم نجحوا في جمع شتات السلطة، لبعض الوقت، في السرايا الحكومية التي احتضنت العائدين وأهاليهم في مشهد احتفالي، كان يفيض بالدموع.. ويؤمل ان يكون له ملحق قريبا بعد استعادة المخطوفين الآخرين من «داعش»، وهذا فصل، بل تحد آخر، ينتظر اللواء عباس ابراهيم.