قد يكون سليمان فرنجية السياسي الوحيد الذي يتحدث في الشأن السياسي على سجيته ، ولا يتوسل فن المناورة . يقول ما له وما عليه وبأسلوب مباشر ، من غيرما حاجة إلى تغليف أقواله بالتوريات والكنايات وأنواع المجاز ، ربما لأنه لا يتقن هذه الأساليب من فنون الكلام والعمل السياسي. هو أول من اتهم قائد الحرس الجمهوري، يوم كان وزيرا للداخلية، بالضلوع باغتيال الحريري ، من غير أن يقصد ذلك ، محملا إياه مسؤولية التلاعب بمعالم الجريمة . وهو الذي وضع أمام جهاز الاستخبارات السورية النتائج التي يمكن أن تترتب على اعتماد أحد قانوني الانتخاب ، قانون الستين أو قانون الطائف، وهو الذي يبوح بأسراره وأسرار حلفائه من غير أن يكون عميلا لخصومه.
لم يكن وضعه سوريا في موقع المتهم المحتمل في اغتيال اللواء وسام الحسن هو الأخطر (1000سبب وسبب يدعوها إلى اغتياله، بحسب قوله) ، بل إن للأخطر وجوها أخرى، منها أن سليمان فرنجية يتباهى بالسياسة التي اعتمدها النظام السوري ، مع علمه أن تلك السياسة ساهمت في شق الصفوف اللبنانية وتهديم الوحدة الوطنية، ومنها أنه يصر على اعتبار خصومه في الداخل بمثابة الأعداء ، ومنها رعونة الأحكام التي يطلقها على القوى السياسية وعلى الأحداث .
على أن ما لا يحتمل في شخصيته كسياسي أمرين : الأول هو أنه تربع على كرسي السياسة بالوراثة ، يعني أنه يمثل أنظمة الاستبداد القروسطية التي عاندت الدخول في عصر الديمقراطية. فهو وإن لم يتيسر له أن يحكم كما يحكم المستبدون ، إلا أن طريقة تنصيبه مكان جده على طريقة خلع العباءة أفسدت عملية تطوير الوعي السياسي والاجتماعي في منطقة تزخر بالكفاءات العلمية والإدارية والسياسية ، وكرست نظام الاستبداد على الصعيد الاجتماعي .
الأمر الثاني أنه شب على العمل في السياسة في حداثة سنه ، مفتقدا للخبرة ، فبات ينطبق عليه المثل ، من شب على شيء شاب عليه، فصارت السياسية على يده أقرب إلى " لعبة ولاد" ، مصطلحاتها فاقدة المعنى ، ويرمى فيها الكلام على عواهنه ، وتتحول فيها التصريحات إلى منصة للشتيمة ، ويقدم فيها المثل الصارخ على الكلمة غير المسؤولة ، أي الكلمة التي قد تتسبب بفتنة ، والنموذج الحي على تتفيه السياسة.
في مقابلته الأخيرة برر الاغتيال السياسي ، وسفه أصحاب الرأي المختلف ، كبارا وصغارا ، وخون معارضيه ، وضرب بسيف كلامه ذات اليمين وذات اليسار ، وسبح بحمد النظام السوري وفضل الارتماء في أحضان نظامه الأمني وكل الأنظمة الأمنية على الوحدة الوطنية .
طبيعي أن يقع المستبد على المستبد ، مثلما تقع الطيور على أشباهها ، لكن من غير الطبيعي أن يصل تتفيه السياسة والسياسيين على يديه إلى هذا الحد ، استنادا إلى هذا النوع من الخفة والجهل . ربما أنه لم يقرأ كلمة ماركيز الشهيرة : الوطن هو أجمل الابتكارات، والأصح أنه لم يقرأ لا لماركيز ولا لسواه ويتباهى بذلك ! إذ كيف يمكن أن ينحاز نائب عن الأمة ضد الأمة ، وأن يتضامن ضد الوطن مع أعداء الوطن؟؟؟ أو لنقل كما قال الشاعر: إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائن؟ أيخون أنسان بلاده؟
فرنجية وأمثاله يدافعون عن حق النظام السوري في خرق السيادة الوطنية ، بل عن "حقه" في ممارسة الاغتيال السياسي ، وإذا كان لهم من خصم سياسي داخلي فهو كل من واجه ويواجه اعتداء النظام السوري على السيادة الوطنية. أخطر ما في الأمر ليس حجم الفجور الذي ينطوي عليه ، بل تحوله إلى مدرسة في الخيانة الوطنية تعلم اللبنانيين على فنون الدفاع عن النظام السوري ضد الدولة اللبنانية وسيادتها.
في تلك المقابلة طال بسيف كلامه رئيس الجمهورية وآل الحريري وجنبلاط ، وأطلق ضدهم أحكاما خرق فيها بعض أصول التعامل السياسي وآدابه ، وختم صولاته وجولاته بالسخرية من خصوم محتملين ، متعرضا لحادثة التمرد على الدولة التي قامت بها إحدى عشائر البقاع المقيمة في بيروت. وهو لم يكن يقصد أبدا الإساءة إلى أفرادها ، بل قصد تطاولها على الدولة. غير أنه لم ينتبه إلى أن التطاول على الدولة والقانون يجد حوافزه في هشاشة الوحدة الوطنية، وإلى أن الذين يرتكبون ذلك من خارج السلطة إنما يتسلحون بسلوك الممسكين بمفاصلها.
والأهم من ذلك عدم انتباهه إلى أن ظاهرة آل المقداد ليست فريدة من نوعها ، بل هي نتاج التركيبة الاجتماعية اللبنانية التي تنتمي إليها كل العائلات السياسية اللبنانية ، بمن فيها آل فرنجية وسائر الذين توارثوا الزعامة بقوة استمرار البنى العشائرية والعائلية في لبنان منذ الاستقلال ، أو الذين رسخوا زعامتهم المتوارثة بالاستقواء بقوى خارجية، أي الذين ارتكبوا فعل الخيانة بحق الوطن ، وهم كل القوى السياسية اللبنانية ، يسارا ويمينا ، في السلطة وفي المعارضة ، من غير استثنا
محمد علي مقلد 5-11-2012