شاءت الصدفة ان تتقاطع في يوم واحد مصارحة فرنسية ـ لبنانية حول هبة الثلاثة مليارات دولار السعودية، لتسليح الجيش اللبناني عن طريق الفرنسيين. فعندما كان قائد الجيش اللبناني العماد جان قهوجي، يفصح من اليرزة، عن يأسه من ان تنفذ هذه الهبة يوما، كان احد المسؤولين الفرنسيين المواكبين للملف يعبّر لـ«السفير» عن تشاؤمه، بعد دخول الصفقة، مرة ثانية، نفق الانتظار الطويل، مع التمسك بفسحة من الامل بالافراج عنها في الرياض بقرار ملكي سعودي، ويقول ايضا ان الرياض طلبت مجددا «ابطاء عملية تنفيذ الصفقة»، فيما لم يحصل الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند على اي جواب من الملك سلمان بن عبد العزيز، عن مصير الهبة، عندما التقاه في الرياض في ايار الماضي.
ويبدو ان العماد قهوجي بات يستبعد تنفيذ الصفقة ـ الهبة في وقت قريب، واصفا إياها بـ«انها ما تزال حبرا على ورق»، وهو اقسى ما قيل في الصفقة من قبل مسؤول لبناني بعد اشهر طويلة من المفاوضات وتحديد لوائح الأسلحة والأولويات والتفاهم مع السعوديين حولها، وتقديم كل الضمانات المطلوبة، بالا تقع في ايدي خصومهم السياسيين في لبنان، أي «حزب الله».
وقال قهوجي: «نحن ننتظر الهبة السعودية منذ سنة ونصف السنة. لقد اجرينا كل الاعمال التحضيرية والاجتماعات وحددنا احتياجاتنا ولكن كل شيء ما زال على الورق حتى الان. وصلنا من الهبة السعودية حتى الان ٤٧ صاروخا فرنسيا فقط».
وللمناسبة، يقول المسؤول الفرنسي ان ما وصل من صواريخ «ميلان»، لم يتعد الدزينتين من الصواريخ الفرنسية المضادة للدروع، اي ٢٤ صاروخا، وليس ٤٧ صاروخا، كما تتناقل الصحف منذ نيسان الماضي.
ويقدم المسؤول الفرنسي معطيات تحث اكثر الضباط اللبنانيين على التشاؤم، وابعد مما قاله العماد قهوجي، ذلك أنه بعد أن طلبت وزارة المال السعودية مطلع هذه السنة، من الجانب الفرنسي، تجميد اي اتفاقات مع الشركات المصنعة او البائعة للاسلحة المطلوبة لبنانيا، كان من المنتظر ان يعمد الجانب السعودي الى تفعيل العمل بالاتفاق واطلاق المفاوضات مع الشركات الفرنسية، وابرام اتفاقات معها، ليبدأ تسليم او تصنيع المعدات والاعتدة المتفق عليها قبل نهاية السنة الحالية. وقد انتظر الفرنسيون ان يستأنف العمل في تشرين الاول الماضي، بالاتفاق الفرنسي السعودي اللبناني، الموقع في شباط 2015 «نحن مجمدون من دون طلب رسمي هذه المرة، فلقد تأخرنا عن المواعيد المتفق عليها للتسليم نحو ستة اشهر، وقد تتأخر الصفقة برمتها من خمس الى ست سنوات، بعد ان كان الاتفاق الاولي، قد قضى بتنفيذها خلال خمس سنوات».
هذه المرة، لم يلجأ السعوديون الى تقديم اي رسالة تجميد جديدة، بل عمدوا الى ما هو أبعد، اذ اقدموا على تجميد رصيد الـ٤٠٠ مليون دولار المدفوع منذ نيسان الماضي من ضمن صفقة المليارات الثلاثة، والمودع في مصرف فرنسي «وهم طلبوا منا عدم استخدام الرصيد».
المفارقة هنا ان الفرنسيين تلقوا اشعارا بتجميد مبلغ ٤٠٠ مليون دولار وليس ٦٠٠ مليون دولار كما عمم سابقا، وبالتالي، فان اية عملية تسليم، الى الجيش اللبناني، لن تكون ممكنة قبل تحرير هذا الرصيد المقدم. ويقول المسؤول الفرنسي: «مهما بلغت قيمة او نوعية الاعتدة والمعدات، لن ترى النور، قبل رفع التجميد، وإنه بات مستحيلا عقد اي اتفاق او شراء اي معدات، ولا يمكنك اقناع اي شركة فرنسية بذلك، اذا لم تحصل على جزء من المبلغ المطلوب على الاقل، لتحريك الصفقة»، وأضاف: «كل المفاوضات مع الشركات الفرنسية مجمدة، وطالما الطلب من دون رصيد، يصنف في خانة النصب والاحتيال بنظر القانون الفرنسي، لكننا نعتقد ان الامور قد تنفرج قبل نهاية العام الحالي».
المسؤول الفرنسي، يؤكد ان كل الجوانب التقنية والادارية في الصفقة مكتملة. اللبنانيون اختاروا الاسلحة، بالتفاهم معنا ومع السعوديين، ومن دون اعتراضات، لكن التغيير الوحيد هو شطب مروحيات الـ «غازيل» من لائحتهم، وهذا جرى منذ بداية المفاوضات، وهم اختاروا نهائيا مروحيات «البوما»، بنماذج مختلطة (قتالية وناقلة للجنود). السعوديون طلبوا مع ذلك ايضا ثلاثة ايضاحات من الجانب الفرنسي، خلال فترة التجميد وهي الآتية: «معرفة الجهة التي ستستلم الاسلحة، خطط التسليم ومواعيدها، نوعية الاسلحة والاعتدة».
تنتاب الجانب السعودي مخاوف كبيرة بشأن الاسلحة التي تعهد بشرائها للجيش اللبناني، وتحديدا تزايد هواجسهم من ان تقع بيد «حزب الله»، خصوصا بعد انخراط الأخير في القتال الى جانب الجيش السوري.
وكانت الصفقة قد ولدت قبل عامين، في ضوء سؤال طرحه الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز امام الرئيس اللبناني السابق ميشال سليمان بحضور الرئيس سعد الحريري عن سبب عجز الجيش اللبناني عن وضع حد لانخراط «حزب الله» في الأزمة السورية، وليس في مواجهة اي عدو خارجي، بيد ان هذه الهواجس المستجدة والمتعاظمة والتي لم تطرحها الادارة السعودية الجديدة أمام الفرنسيين قبل الآن، قد تكون هي أحد مبررات التردد في تنفيذ الصفقة، لكنها ليست المبررات الوحيدة في تعرجات الصفقة التي «لا تزال حبرا على ورق» كما قال العماد قهوجي، أمس، لوكالة «رويترز».
التفسير الاول الذي كان قدمه السعوديون للتأخير والمتمثل بالتحقيق الذي يجريه النظام السعودي الجديد مع خالد التويجري، رئيس الديوان الملكي السابق، في شأن صفقات كثيرة بينها الهبة اللبنانية، لا تقنع المسؤول الفرنسي «فالتويجري لم يكن مفاوضا رئيسا ولا مشرفا على الصفقة. من فاوض الجانب الفرنسي ماليا هو وزير المال السعودي ولا علاقة للتويجري بالامر»..
التأخير من وجهة نظر الفرنسيين قد يتصل اكثر بالصراع ايضا ما بين ولي العهد الأول محمد بن نايف وبين ولي العهد الثاني محمد بن سلمان. مصدر فرنسي آخر يفترض ان رغبة محمد بن نايف باستعادة ملف الصفقات العسكرية، ومحاولته عزل وإضعاف رئيس الوزراء اللبناني الاسبق سعد الحريري هما ايضا احد اسباب التأخير والتجميد، بالاضافة الى رغبة الفريق السعودي الجديد بالتعرف الى كل الملفات، وسبر اغوار مضامينها والكثير من قطبها المخفية.
اما اشتراط انتخاب رئيس لبناني لتنفيذ الصفقة، فليس مقنعا فرنسيا «قد يكون عنصرا مساعدا، لكنه ليس بالضرورة احد اسباب التأخير، فالصفقة أبرمت بعد وقوع الفراغ الرئاسي، وجرى التوقيع عليها وإبرامها في شباط الماضي، كما تم تحويل المقدم من المليارات الثلاثة، في نيسان الماضي، اي بعد عامين من الفراغ الرئاسي».
اليمن قد تكون في خلفية المشكلة اللبنانية، وتوزيع ٣٠ مليار دولار على السعوديين لمناسبة صعود سلمان الى العرش. الاولويات السعودية تغيرت. السعوديون استدانوا ٢٠ مليار دولار، باعوا ٧٠ مليار دولار من اصولهم في الخارج من اصل ٦٧٠ مليار دولار، للتعويض عن العجز في خزينتهم الذي بلغ ٢٠ في المئة. مليار ونصف مليار دولار، لشراء قذائف اميركية، هذا الشهر، لمواصلة الحرب في اليمن، في ظل تراجع عائدات المملكة النفطية مع هبوط سعر النفط الى النصف، من ٩٠ الى ٤٥ دولارا للبرميل الواحد.
هل يمكن إلغاء الصفقة ـ الهبة؟
«لا اعتقد ذلك»، يقول المسؤول الفرنسي «لم يحدث ان ألغت السعودية صفقة من هذا النوع من قبل، طبعا درجة الخطر صفر غير موجودة، نحن لم نوقع معهم صفقة بالاحرف الاولى، انه عقد مبرم، ولو ألغوا العقد، فان ذلك سينال من هيبتهم، وسيكون لذلك نتائج سياسية وديبلوماسية كبيرة، وليس لهم اي مصلحة عقدية او سياسية وهم لن يستردوا المقدم المدفوع (الـ٤٠٠ مليون دولار) لاسباب قانونية وعقدية.. لكننا نثق بانهم سيعودون الى تفعيل الصفقة، وسينفذون العقد، وسيدفعون قبل نهاية العام الحالي».
القرار بيد من؟
«القرار بيد الملك سلمان وحده، ولا احد غيره، لان الصفقة بدأها ملك، وينفذها ملك» يقول المسؤول الفرنسي، «ونحن ننتظر».