خلف جدران متجر السمانة، في حي سوق البلاط الضيّق، اختبأت قصصٌ صامتةٌ، لم يعرف خباياها إلّا ذلك الرجل الكبير في السن، توفيق (76 سنة)،الذي لاقى حتفه مساء الاثنين الفائت في جريمةٍ مزدوجة مروّعة، هزّت أحياء زحلة.
زوجٌ يقتل زوجته، ثمّ يتوجّه إلى متجر عمّه لأبيه، توفيق، الذي يبعد عشرات الأمتار من منزله، ليطلقَ النار عليه، ويخرج ليتنزه على الطريق، ثم يطلب من أحد المارّة في سيارته أن يصطحبه إلى مكانٍ ما، فيقبض عليه على حاجز "ضهر البيدر"، وهو في طريقه إلى بيروت.
خرج القاتل جورج ع. (49 سنة) من مسرحي الجريمة وهو يصرخ ويضحك مهلّلاً "قتلتها! قتلتها!"، وقد رآه بعض الذين كانوا متواجدين في صالون كنيسة مار يوسف- الأنطونية، وهي تقع مقابل المتجر، في سوق البلاط.
أما لميس التي عملت لسنوات في كافيتيريا، في إحدى مدارس المنطقة، فكانت تتعرض للتعنيف والضرب من قبل زوجها؛ هما لم يكونا على اتفاق، لذا غادرت منزلهما الزوجي ولجأت لأختها منذ فترة لتعيش معها، وفق رواية المقربين منها.
إحدى المقربات من لميس روت لـ"النهار" الآتي: "وصل زوج لميس في ذلك اليوم إلى مكان عملها، وطلب منها أن تعود معه فوراً إلى المنزل كي تحزم كل أمتعتها بحجة أنّه يريد تسليم المنزل إلى المالك كونه لن يدفع الإيجار بعد اليوم، فذهبت معه. حاولنا مراراً أن نصالحهما، لكنّ شيئاً لم يتغيّر. كان لا بدّ لها أن تتركه وتمضي في سبيلها. علماً ان المغدورة كانت تعيل زوجها الذي لا يعمل".
مساء الاثنين، سُمع دوي رصاص في الحي فلم يكترث الجيران أوّلاً، وعندما تكرر الأمر، هرع الجميع لمعرفة ما يحدث. امرأة بريئة ومسكينة، مرميّة أرضاً، في منزلها، والدماء تسيل منها، وعلى بعد عشرات الأمتار، عمٌّ جالسٌ على كرسيّه في المتجر، الذي لم يعد جورج شريكاً فيه منذ فترة، يحني رأسه نحو الأرض، وقد لفظ أنفاسه الأخيرة. فهذا الأخير ربما يكون ذهب ضحية إحترامه للسيدة، زوجة إبن أخيه، الذي كانت تعمل وتضحي من أجل من لم يستحقها يوماً وبسبب دفاعه الدائم عنها.
وتضيف السيدة المقربة من الضحية: "لميس محبوبة من الجميع، لا يمكن وصف القهر الذي نشعر به اليوم. هي امرأة طيبة جدّاً...لا يمكن حتى وصف حالة التلامذة اليوم في الكافيتيريا، ولا حتى وجوههم الشاحبة وعيونهم التي لم تصدق بعدُ هول هذه الفاجعة".
تستذكر إحدى خريجات المدرسة لميس فتقول: "قدّ ما قول منيحة ما بيكفّي... كانت تحب الجميع ويبادلها الجميع هذه المحبة، وتحب مساعدتنا. كانت تعاملنا وكأننا أولادها التي لم يردها أن تنجبهم في حياتها. رغم ذلك لم نرها يوماً حزينةً".
وتخبر إحدى التلميذات التي تدرس حالياً في المدرسة التي تعمل فيها لميس: "كانت تضع دائماً نظارات سوداء اللون، وترخي شعرها عند طرف وجهها، ظننا أوّلاً أنّها لا تحب أن تُظهر التشوّه في وجهها، وبعد الحادثة عرفنا السبب وما كانت تتعرّض له من ضربٍ وتعذيب".
وتضيف: "رحلت من كانت تحب الضحك، هي التي تنتظر أن تحضّر لنا سندويشات "اللبنة و الجبنة" في الصباح، وتقول لنا "تفضلّي يا روحي، يا حياتي". أخبرتنا مديرة المدرسة في اليوم التالي عما حدث مع لميس الطيبة، وعن الذي كانت تعيشه من عذابٍ وقهر. صلّينا معاً ثم توجّهنا لإضاءة الشموع أمام الكافيتيريا. لم تشهد المدرسة يوماً مثل هذا الصمت والهدوء. لم يكن الأصدقاء يتحدّثون أحدهم الى الآخر وهم في طريقهم إلى الصف".
ساد الصمت وخلفه علامات إستفهام حول سخرية القدر تدور في عقول كل من عرفها، "لماذا ماتت لميس؟ كيف حصل ذلك لها؟".
وقبل أيامٍ قليلة من الحادثة، زارت لميس مكتب مختار المحلة التي كانت تقطنها، لكنّ الأخير لم يكن يعلم أنّها الزيارة الأخيرة لها، فيروي ما حصل قائلاً: "قبل يومين من وقوع الجريمة، زارتني لميس كعادتها، وطلبت مني أن تنقل رقم هاتف المنزل، الذي كان بإسمها، إلى منزل شقيقتها حيث باتت تسكن. وللقيام بهذه الإجراءات، كانت بحاجة إلى إفادة سكن مني، وكانت أخبرتني بأنّه باع كل أغراض المنزل، وكانت قد اشترتهم، ولم يبقَ في المنزل سوى أغراضها الشخصية".
ويضيف: "جورج لم يعمل يوماً. يعرفه الجميع، فهو الذي كان يتنقّل على العكاز بسبب حادثٍ حصل معه في الماضي. هو لم يرد إنجاب الأطفال منها، وقد مضى على زواجهما 15 سنة. حتى أنّه لم يرد تسجيل زواجهما... وبعد يومين استدرجها إلى المنزل لينفذ بعدها جريمته".
حبوب أعصاب... فإجرام؟!
الجدير ذكره أنّ جورج كان يتعاطى أدوية للأعصاب كما اسارت معطيات امنية اولية، فهل يؤدّي تناول هذه الحبوب إلى ردّات فعلٍ كالقتل مثلاً؟
عن هذا الشقّ، تقول الأخصائية في الطب النفسي هانا عازار: " تختلف أدوية الأعصاب وتتعدد بحسب كل تشخيص، ولكل منها تأثيراته على المريض. لكن الادوية لا تؤدي بحدّ ذاتها بالمريض إلى ارتكاب جرائم قتل. هذه الأعراض الغريبة تتجلّى لدى المريض الذي يعاني إنفصاماً في الشخصية مثلاً أو عند المرضى النفسيين الذين لا يتبعون إرشادات طبيبهم بشكلٍ صحيح".
التحقيق متوقف إلى أن...
وحول التحقيق مع الجاني، قال المدعي العام في البقاع فريد كلاس لـ"النهار" أنّ "المتهم يبدو أنّه كان تناول حبوباً في وقتٍ سابق، والتي سببت، عند توقيفه على حاجز "ضهر البيدر"، بتنويمه، ما استدعى نقله إلى مستشفى رياق، وهو قيد التوقيف. لا نزال حتى الآن في انتظار أن يصحوَ كي نتمكن من المباشرة في التحقيق معه حول ملابسات الجريمة".