يسابق فلاديمير بوتين الوقت في ما تبقى للرئيس الأميركي باراك أوباما من مدة زمنية في البيت الأبيض، من أجل فرض واقع أمر روسي في السياسة الدولية، مستغلاً تراجع الهيمنة الأميركية على العالم بفعل سياسة الانكفاء التي تمارسها إدارة بارك أوباما منذ 7 سنوات، هذا الانكفاء الذي أدى إلى ارتفاع وتيرة النزاعات الإقليمية، بعد تخلي واشنطن عن التزاماتها في الحفاظ على التوازنات الدولية والإقليمية، وتراجع موقعها في الحرب على الإرهاب، ما أفسح المجال أمام قوى دولية متعددة للتدخل في الشؤون الداخلية لكثير من بلدان العالم، تحت حجة مصالح الأمن القومي وحماية الاستقرار العالمي.
شكل التعامل الروسي مع كثير من الأزمات الدولية في السنوات العشر الأخيرة منطلقًا لإعادة ترسيخ الموروث السياسي العالمي، الذي مارسته الدول الخمس الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية، والقائم على اختزال حق ممارسة السيادة الدولية على الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، في محاولة روسية جادة من أجل الالتفاف على هزيمة السوفيات في الحرب الباردة ومناهضة سياسة الأحادية القطبية، وما تعتبره موسكو سلبيات الهيمنة الأميركية على العالم، فقد فتحت الأزمة الأوكرانية المجال أمام موسكو لممارسة ما تعتبره حقًا في السيادة الدولية، مستفيدة من الارتباك الأوروبي العاجز عن اتخاذ قرار موحد، إضافة إلى محدودية أدواته في مواجهة طموحات الهيمنة الروسية جراء تذبذب الموقف الأميركي وتخليه عن مسؤولياته التاريخية في الدفاع عن حلفائه الأطلسيين.
نجح فلاديمير بوتين على الرغم من كل الأزمات الاقتصادية والمالية التي تمر بها روسيا في دغدغة مشاعر مواطنيه وإحياء حنينهم إلى الماضي السوفياتي والقيصري، ودفعهم إلى الاعتزاز بمكانة وموقع بلادهم على الساحة الدولية، وبدور رئيسهم في قيادة حرب عالمية على الإرهاب، خصوصًا بعدما اعتبر الكرملين أن الغرب فشل في مكافحة هذه الظاهرة والقضاء عليها، فجاء كلام الرئيس بوتين الأخير حول الإرهاب بمثابة منطلق لتأسيس روسي لمفاهيم جديدة في معالجة قضايا عالمية مشتركة، تؤثر على الأمن الجماعي الدولي، ولكن هذه المرة ضمن رؤية روسية خاصة، ترفض الاعتراف بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، واتهامها كل من يحمل السلاح دفاعًا عن النفس بممارسة الإرهاب، ما سيؤدي تلقائيًا إلى نتائج سلبية تزيد من حدة الإرهاب والعنف.
على الرغم من المشهد السياسي الذي تحاول موسكو فرضه بالقوة، كثابت في المتحولات الدولية الجديدة على الخريطة الجيو - استراتيجية، لما تعتقده بداية ملامح عالم ما بعد الهيمنة الأميركية، مراهنة على المردود السريع لفائض القوة الذي تمارسه من خلال إرسال قاذفاتها الاستراتيجية (توبل 160) لضرب المدنيين السوريين، واستخدامها لصواريخ باليستية ضد مواقع المعارضة السورية المعتدلة بحجة الحرب على «داعش»، وتعديها على سيادة دولة ضعيفة مثل لبنان، من خلال إجبارها على إغلاق مجالها الجوي، بحجة مناورات عسكرية قبالة السواحل اللبنانية السورية، ودعمها لميليشيات انفصالية شرق أوكرانيا، فإنها لا تمتلك الأدوات والإمكانيات التي تخولها للعب دور السيادة الدولية أو التأسيس لعالم متعدد الأقطاب، خصوصًا بعد اكتفاء الصين بممارسة دور اقتصادي عالمي.
لا يمكن لترسانة ضخمة من الأسلحة التقليدية الضعيفة تقنيًا إلا أن تدمر مجتمعات بأكملها، وتقضي على فرص إعادة دمجها، وإغراقها بنزاعات تشنها دول غير متقدمة على دول شبه فاشلة، ما سوف يعزز نظرية عدم تخلي المجتمع الدولي عن مشروع الدولة المتقدمة القوية، التي يمكنها الحفاظ على الاستقرار الدولي، من خلال احتواء ولو نسبي للسيادة الدولية، وليس احتكار ممارستها! وهذا هو الفارق بين روسيا فلاديمير بوتين والدول الغربية الحديثة.