إستفقت والفجر لم يطلّ بعد، و"الشتويّة" تعلن بهبّات رياح صغيرة عودتها، وسكون سحريّ يحضن منزلي. خرجت الى الشرفة وإذ بصوت ملائكي يمرّ على مسمعي وهو يتغنّى بصخرة كأنّها وجه بحّار قديم. ولوهلة، اعتقدت بأنّني أصبت بالهذيان، لكنّ طيف امرأة تتجّه بهدوء الى أعلى التلّة القريبة، سرعان ما قادني خلفه.
خرجت من منزلي وبسرعة لحقت بها وهي تمرّ في شوارع المدينة الضيقة المكتظة بالمباني الصامتة، وسمعتها "ترندح" عن "طاحون على نبع المي" الجميل في قرية بعيدة لم يبق منها إلّا بعض الذكريات التي أكلها الباطون بسرعة.
من بعيد، لم أر معالم وجهها، لكنّني أدركت بأنني في حضرة إنسانة أتت من عالم جميل لترثي عالمنا اليوم.
وصَلَت الى القمّة وقبل أن تلتفت الى بيروت، اختبأتُ خلف جذع شجرة خوفاً من أن تراني وتهرب قبل أن أدرك سرّ عودتها الى المدينة.
نظَرَت الى العاصمة وتنهَّدت أنفاسها... فسمعتها تتمتم بصوت مجروح "أطفأت مدينتي قنديلها، في المساء وحدها... وحدها وليلُ"، ولكنّها عادت ومسحت دمعة هاربة من عيونها وبسطت يديها وقالت: "أنا عصفورة الساحات، أهلي ندروني للشمس وللطرقات...".
شعرت آنذاك بأنّ كياني بكلّ أحاسيسه ومشاعره ينبض حياة مع صوتها، عرفتها! إنّها هي...
وبعد برهة من الوقت، حوَّلَت نظَرها باتجاه قصر بعيد طال الفراغ فيه. رأيتها تبتسم وترسم زهوراً جميلة حوله و"توشوشه": "بكرا إنت وجايي رح زيّن الريح، خلّي الشمس مرايي والكنار يصيح... وجمّع ناس وعلّي قواص، بكل شارع ضوّي حكاية... بكرا إنت ومارق رح صوّر براج... وصوت العيد يدقّ بعيد... بكرا إنت وطالل... إنت وطالل يا حبيبي".
ما زال الفجر هائماً خلف الجبل، وما زلت مسحوراً وأنا أتتبّع كل خطواتها ونظراتها التي اتجّهت الى جسر في جونية تكسو أسفله النفايات... سكتت "ساحرتي" قليلاً، تنهّدت ثم "همدرت": "على جسر اللوزية تحت وراق الفيّة... هبّ الغربي وطاب النوم على جسر اللوزية".
بزغ الفجر وسُمعت في الأفق أبواق السيارات والشاحنات وضجّة المدينة، وسمعتها تضحك وتستذكر مفرقاً كان يضجّ بعجقة الناس و"الشمسيات".
بزغ الفجر فبانت على وجهها ملامح الحزن الكبير وعلى ركبتيها ركعت... بكت... وتطلّعت الى الجبال المكسوّة بقليل من الثلج، وتأرجح صوتها بين ذكريات وطن على بالها، فوصفته بـ"قمر الحلوين وسهر بتشرين وذهب الغالي"، وقالت والغصة في حنجرتها "بعدك على بالي...".
مرّت بقربي.. تلعثمتُ، أدمعت عيناي، رُبط صوتي واقشعرّ بدني... فتابعت سيرها من غير أن تراني.
أغمضت عيني وبكيت...
شكراً فيروز... في عيدك الثمانين نهديك ثمانين ألف شكر وثمانين مليون "يطوّل بعمرك"... لأنه لم يتبقّ لنا من لبنانك سوى أغنيات تشعل في داخلنا ذاك الحبّ القائل لوطنه "شايف البحر شو كبير... كبر البحر بحبّك"..