تقاطعت في الجريمة – المجزرة التي قتلت وجرحت مئات المدنيّين في باريس قبل أيام أبعادٌ ثلاثة: عالمية وشرق أوسطية ووطنية فرنسية.
البعد الأول مرتبط بظاهرة الإرهاب العابر للحدود الذي دخل منذ العام 2001 مرحلة جديدة، ليس لجهة الإيديولوجيا، بل لجهة التخطيط والتنفيذ حيث مزيج الخلايا النائمة والعناصر البشرية المفاجئة في سلوكها وفي مخيّلتها الإجرامية.
البعد الثاني مرتبط بصعود داعش في سوريا (بعد صعودٍ في العراق) فوق أنقاض بلداتٍ ومدن سحقتها براميل نظام الأسد وصواريخه. ولا شكّ أن ترك سوريا نهباً للمجازر على مدى أعوام وتلكّؤ "المجتمع الدولي" ومعظم صانعي قراره تجاه كارثتها غذّى هذا الصعود وأتاح له الاستفادة من "مظلوميات" كثيرة.
أما البعد الثالث فداخلي أوروبي مرتبط بأزمات حادة داخل أكثر من مجتمع، لا سيّما المجتمع الفرنسي، لجهة قضايا الهوية والدين والثقافة والارتقاء الاجتماعي وآليات التمييز والتهميش، وما يصاحب التعامل معها من عنصرية وتنميط ومن غضب وحقد، تُعدّ بعض ضواحي المدن الكبرى مختبرات لها منذ سنوات طويلة.
وإذا كانت "الحرب الدولية على الإرهاب" التي قادها الرئيس الأميركي جورج بوش عقب هجمات 11 أيلول 2001 قد أثبتت فشلاً ذريعاً، إذ تفاقم الإرهاب في ظلّها وتصاعد بعد اجتياح أفغانستان والعراق، فإن انكفاء خلفه باراك أوباما وتردّده الدائم تجاه قضايا الشرق الأوسط، لا سيّما القضية السورية، أثبت هو الآخر إخفاقاً ذريعاً، يحصد العالم اليوم بدءاً من فرنسا بعض نتائجه المأساوية.
أما لماذا فرنسا، فالأمر يُحيلنا الى أزمة "النموذج الجمهوري" فيها اليوم، وإلى تفاقم الشروخ الاجتماعية، وإلى انتشار خطاب عنصري تقوده "الجبهة الوطنية" من جهة وظهور مقولات عدمية تُعادي العالم ومعنى الحياة وتُكفّر الآخر المختلف في بعض الأوساط الشبابية المسلمة المهمّشة من جهة ثانية.
هل من مخرجٍ أمام أوضاع كهذه؟
لا يبدو الأمر وشيكاً. فالمقاربة العسكرية التي تكتفي بقصف جوّي لمراكز داعش لا تكفي. والإجراءات الأمنية تُظهر مع كل عملية جديدة محدوديّة فاعليّتها، وتكرار الشعارات الإعلامية والسياسية المبتذلة تُغذّي الكراهية وتسطّح فهم القضايا الشائكة. وكلّ ذلك يُبقي جذور المشكلة ويؤجّل فقط وقوع كوارث جديدة.
ما يمكن قوله اليوم أزاء ذلك، أن الحرب على "الإرهاب" حرب لا نهاية لها، لأنها في ذاتها خطأ، إذ لا حرب عسكرية ممكنة ضدّ "مفهوم" أو ضدّ آثار "أمراض" خطيرة. في المقابل الحرب على الإرهابيّين ضرورة، شريطة ترافقها مع جهود جدّية لمكافحة أسباب الإرهاب ومحاصرة ساحات تشكّله.
وهذا في ما خصّ "داعش" يبدأ اليوم في سوريا، واستطراداً في العراق، فمفتاحه في دمشق حيث مسبّب الإرهاب الأول، وفي بغداد حيث الإقصاء السياسي المذهبي تعزيزٌ للإرهاب.
أما بعد ذلك، فثمة قضايا تتراكم المصائب فيها وتتحوّل الى مظلوميات تبريرية للعدمية القاتلة ولكثرة من الموبقات المستظلّة بالدين، من فلسطين الى ضواحي التهميش الأوروبي. وهذه أيضاً يجب مقاربتها - بعد كل تجارب العقود المنصرمة الفاشلة - بجدّية وبمعايير وقيم كونية.
المصدر/ ناو