الضربات الإرهابية التي هزّت باريس بدّلت في أجندة المجتمع الدولي الذي وضَع في طليعة أولوياته مكافحة الإرهاب عبرَ اتّخاذ كلّ الإجراءات الكفيلة بالقضاء على هذه الظاهرة التي أصبَحت عابرة للحدود وقادرة على هزّ استقرار أيّ دولة في العالم. والإرهاب الذي استهدفَ الضاحية الجنوبية مجدّداً، بعد فترة طويلة نسبياً من الاستقرار الأمني، يتّجه لتحويل أولوية القيادات اللبنانية من سياسية إلى أمنية، خصوصاً بعد إعلان أكثر من مسؤول سياسي وأمني دخولَ لبنان في حرب مفتوحة مع الإرهاب. وفي حال سَلكت الأمور هذا الاتجاه يَعني أنّ الأمن نجَح في تحقيق ما عجزَت عنه السياسة لجهة الدفع نحو تسوية سياسية تُعيد تفعيلَ عمل المؤسسات الدستورية، وتحصينَ الوضع الداخلي بشبكة أمان سياسية. وفي موازاة الدافع الأمني، أوجَدت دعوة الأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصرالله إلى تسوية على طريقة السلّة المتكاملة مناخاتٍ إيجابية وتفاؤلية، خصوصاً بَعد تلقّفِها سريعاً من جانب الرئيس سعد الحريري الذي اعتبَر أنّ المدخل لتحقيقها يَكمن في الاتفاق على انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وفي الوقت الذي كانت فيه مصادر الشكوى من رفض الحزب الوصولَ إلى مساحة مشترَكة مع الفريق الآخر بفِعل التمسّك بشروطه ومرشّحِه، وجَّه نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم رسالةً قوية تَستكمل ما بدأه نصرالله، وقد تُشكّل خرقاً سياسياً يَفتح الباب أمام التسوية السياسية، حيث دعا إلى «تسوية فيها تَبادُل للتنازلات والمكاسب من أجل انتهاز الفرصة والانتقال من لبنان الذي يَشكو إلى لبنان المتعافي»، ما يَعني استعدادَ الحزب للتنازل، الأمرُ الذي يشكّل التحدّي الأبرز أمام هيئة الحوار لتلقّفِ هذا الجوّ وترجمتِه، هذه الهيئة التي تلتئم اليوم في عين التينة، بدلاً من مجلس النواب، تجَنّباً لانعكاس الإجراءات الأمنية على العجَلة الاقتصادية في وسط بيروت، وقد استبَقتها قوى 14 آذار في اجتماع تنسيقي يرمي إلى توحيد الموقف والرؤية من القضايا المطروحة، مِن مواصفات الرئيس إلى مبادرة نصرالله، وما بينهما الوضع الأمني. في ظلّ الاستنفار العالمي في مواجهة إرهاب «داعش» الذي هدّد أمس الدوَل التي تشارك في ضربات جوّية ضده في سوريا، بأنّها ستَلقى نفس مصير فرنسا، وتوعَّد بشنّ هجوم في واشنطن، ومع بقاء لبنان في دائرة الاستهداف، خصوصاً بعد التحذيرات الرسمية والأمنية من تكرار مشهد التفجيرات الإرهابية، ومع تزايُد الحديث عن تحرّك ديبلوماسي عربي ودولي مكثّف باتّجاهه، غابَ التشنّج عن الخطاب السياسي وسادت لغة التهدئة.

الجنرال براون

وقد وصَل الى لبنان عصر أمس قائد القوات الجوّية في القيادة الوسطى الأميركية الجنرال تشارلز براون آتياً من عمان، في زيارة الى لبنان تستمر حتى اليوم الثلاثاء.

وعلمت «الجمهورية» أنّ زيارة براون الى بيروت كانت مقررة سابقاً، لكن بَعد التفجير المزدوج في برج البراجنة والتفجيرات الارهابية التي شهدتها باريس اخيراً بدأت ترتدي طابعاً آخر.

وسيَبحث براون مع المعنيين في التنسيق لمكافحة الارهاب وفي تسليح الجيش اللبناني وتسريع تزويده بالذخائر والأعتدة وتكثيف برنامج التدريب لمواجهة الارهاب في ضوء تجارب الجيش الاميركي في الدول التي حاربَ فيها الارهاب.

وكان القائم بأعمال السفارة الاميركية في بيروت ريتشارد جونز زار وزير الخارجية جبران باسيل معزّياً «بالحادث المأسوي الذي وقعَ في برج البراجنة»، ومهنّئاً في الوقت نفسه «على ردّة الفعل السريعة من قبَل القوى الأمنية»، آملاً في «أن تتوصّل الى كشف كلّ الخيوط والقبضِ على الإرهابيين المسؤولين عن هذا الحادث الرهيب».

ولدى سؤاله: هل تتخوَّفون من الوضع الأمني في لبنان؟ أجاب: «من الواضح أنّ للناس مخاوفَ أمنية في كلّ أنحاء العالم، لذا لا يمكنهم أن يشعروا بأمان في أيّ مكان. وبعد الاعتداءات التي استهدفَت باريس أين يمكن أن يكون الأمان؟ لا يمكننا أن نشعر بالأمان إلّا بعد أن نضَع حدّاً لتفشّي وباء الإرهاب وليس هناك من أيّ مبرّر لقتل الأبرياء، أيّاً تكن القضية أو الغاية».

«14 آذار»

وفيما تشخصُ الأنظار الى طاولة الحوار الوطني التي ستنتقل اليوم الى عين التينة بدلاً من ساحة النجمة برعاية الرئيس بري الذي يقيم غداءً للمتحاورين، عَقدت قوى 14 آذار على جريِ عادتها عشية كلّ جلسة حوارية اجتماعاً تنسيقياً في «بيت الوسط» حضرَه، الى الرئيس فؤاد السنيورة وقياديّين من تيار المستقبل، نائبُ رئيس مجلس النواب فريد مكاري، رئيس حزب الكتائب اللبنانية النائب سامي الجميّل ومعه عضو المكتب السياسي الكتائبي سيرج داغر، الوزير بطرس حرب، الوزير ميشال فرعون، نائب رئيس حزب القوات اللبنانية النائب جورج عدوان، النائب مروان حماده، منسّق الأمانة العامة لقوى 14 آذار الدكتور فارس سعيد، وعددٌ من الشخصيات الحزبية والسياسية المستقلّة.

وقالت مصادر واسعة الاطّلاع لـ«الجمهورية» إنّ المجتمعين أجروا تقويماً للتطوّرات عشية الجلسة العاشرة لهيئة الحوار الوطني، وناقَشوا المبادرة التي أطلقَها السيّد نصرالله بهدف تكوين موقف موحّد منها، وقد تمّ تفنيد بنودِها المختلفة، مِن انتخاب رئيس الجمهورية الى التركيبة الحكومية المقبلة فقانون الانتخاب، وأجريَت قراءة متأنّية للظروف التي أملتها، وكيف يمكن تلقُّفها، بانتظار ما ستحمله جلسة اليوم من استعدادات، باعتبار أنّ الموضوع سيكون مطروحاً عليها بقوّة التوقيت الزمني وعلى خلفية الطارئ الأمني بعد جريمة التفجير المزدوجة في برج البراجنة.

وقالت المصادر إنّ التفاهم رسا على استمرار إعطاء هذه القوى الأولوية للانتخابات الرئاسية التي تشكّل المدخل للبنود والاستحقاقات الأخرى، خصوصاً بعد أن توصّلت هيئة الحوار الى مواصفات محدّدة تفرض البحث عن رئيس لا يشكّل تحدّياً لأيّ من الأطراف المتصارعة.

وفي المعلومات أنّ المجتمعين تبَلّغوا من الرئيس بري أنّه وجّه الدعوة الى هيئة مكتب المجلس يوم غدٍ الأربعاء لتشكيل اللجنة المكلّفة وضعَ قانون جديد للانتخاب على خلفية البحث عن قواسم مشتركة ضمن مشاريع القوانين الموجودة في مهلة شهرين. كما أنّ الإجراءات الإدارية لإصدار قانون استعادة الجنسية قد بوشِرت من أجل إصدار المرسوم الذي ستَجول به الأمانة العامة للمجلس على الوزراء لتوقيعِه دون الحاجة الى جلسة لمجلس الوزراء.

وتبَلّغ المجتمعون بأنّ رئيس الكتائب لن يشارك في اجتماع الهيئة اليوم انطلاقاً من موقفه الثابت من عدم دعوة مجلس الوزراء لمواجهة ما هو طارئ في ظلّ الظروف الأمنية التي عاشَتها البلاد ولا سيّما التفجيرات الأخيرة التي لم تستدعِ برأي المعنيين دافعاً إلى عقدِ جلسة استثنائية لمجلس الوزراء، وقضايا مختلفة يجب أن يواكبَها مجلس الوزراء تشَكّل همّاً يومياً لمختلف الفئات اللبنانية.

وعلمَت «الجمهورية» أنّ المجتمعين تطرّقوا أيضاً إلى انتخابات نقابة المحامين وما رافقَها من تباينات أدّت إلى سقوط مرشّح هذه القوى.

التسوية السياسية

وعشية الحوار، تواصَلت الدعوات الى الإفادة من المناخات الإيجابية، فيما دعا «حزب الله» الى تلقّف المبادرة التي طرَحها الامين العام للحزب السيّد حسن نصر الله أخيراً.

وفي هذا السياق، اعتبَر الشيخ قاسم أن «لا بديل عن التسوية الداخلية التي طرَحها السيد نصرالله»، مؤكّداً «عقمَ انتظار التطوّرات الخارجية»، مشيراً إلى أنّ «الفرصة لا زالت سانحة في ظلّ استقرار أمني معقول ومناسب، فنستطيع أن نلملمَ أوضاعَنا وأن نناقشَ ونتحاور ونصل إلى النتائج المطلوبة».

وقال قاسم: «ليَكن معلومًا أنّ التسوية فيها تنازلات ومكاسب، لا يوجَد تسوية بمكاسب فقط، أي علينا نحن أن نتنازلَ مقابل ما نَربح، وعليهم هم أن يتنازَلوا مقابل ما يربحون، لا يوجَد في التسوية رِبح خالص وخسارة خالصة».

وأضاف: «نحن ندعو إلى تسوية فيها تبادُل للتنازلات والمكاسب من أجل انتهاز الفرصة والانتقال من لبنان الذي يَشكو إلى لبنان المتعافي»، وأكّد أنّ «هذا الأمر يتطلب شجاعة وإقدامًا، ونحن نملك هذه الشجاعة ونتمنّى أن يملكها كلّ القادة في لبنان».

قزّي

وقال وزير العمل سجعان قزي لـ»الجمهورية»:»المسألة ليست إيجابيةَ أو عدمَ إيجابيةِ كلام السيّد نصرالله، لا شكّ في أنّ ما قاله إيجابي من الناحية الحوارية، لكن في المقابل لا يجوز أن نضطرّ إلى إجراء تسوية سياسية كلّما كان لدينا استحقاق دستوري، فهذا يعني أنّ لبنان ليس وطناً نهائياً، لأنّ التسويات لا تجري كلّ يوم وكلّ سنة وكلّ 5 سنوات.

أمّا إذا كان يعني بالتسوية التفاهمَ على رئاسة الجمهورية، فالتفاهم يكون بالاتفاق على رئيس يثير ارتياحَ مختلف الاطراف ويَجري انتخابه من دون دفتر شروط مسبَق. فإذا كان هذا الغرَض فنحن نتفهّمه».

لا مجلس وزراء

ومع استمرار عمل الحكومة في إجازة، اعتبَر رئيس حزب «القوّات اللبنانيّة» سمير جعجع أنّ «من العار أن لا تجتمع الحكومة في لبنان بعد أربعة أيام على تفجير الضاحية وسقوط 45 شهيداً لبنانياً».

من جهته استغربَ حزب الكتائب عدمَ انعقاد مجلس الوزراء بشكل استثنائي فورَ حصول التفجير في برج البراجنة، وحمّلَ «الحكومة بكامل مكوّناتها، مسؤولية وضعِ المصلحة الوطنية العليا وهموم الناس الأمنية والمعيشية والحياتية فوق أيّ إعتبار آخر».

بان: سلاح «الحزب» يقوّض قدرة الدولة

وفي سياق التقرير الدوري الذي يقدّمه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلى أعضاء مجلس الأمن الدولي حول تنفيذ قرار المجلس 1701 الذي أنهى الأعمال العسكرية بين «حزب الله» وإسرائيل عام 2006، قال في تقريره الأخير الذي يتناول الوضع في لبنان خلال الفترة من 25 حزيران إلى 4 تشرين الثاني من العام الحالي، إنّ تسَلّحَ «حزب الله» يشكّل انتهاكًا لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، ويقوّض قدرة الدولة على بسطِ سيادتها وسلطتها بشكل كامل على أراضيها».

وأهابَ «بجميع الأطراف اللبنانية أن تكفّ عن أيّ مشاركة في النزاع السوري، وأن تلتزم مجدّداً بسياسة النأي بالنفس». ودعا جميع القادة اللبنانيين إلى التقيّد بدستور لبنان وباتّفاق الطائف وبالميثاق الوطني، كما دعا أعضاءَ المجلس النيابي الذين يقاطعون الجلسات البرلمانية الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية، إلى أن يتيحوا انعقاد تلك الجلسات على وجه السرعة لانتخاب رئيس للجمهورية دون مزيد من التأخير».