وبالرغم من كل هذا الإتفاق على وصف تنظيم ما يسمى بالدولة الإسلامية "داعش" وتصنيفه بأنّه التنظيم الإرهابي الأوّل بلا منازع ، وبالرغم من تكاتف كل العالم على قتالِه وتدميرِه ، وبالرغم أيضاً من محاولات هذا التنظيم الإجرامي بالإعلان المستمر عن هويته وعن أفعاله وإعلان دولته ومناطق نفوذه واسم خليفته وجنسيات مقاتليه وتحديد أهدافه والإشارة ببنانه إلى الحليف أو الخصم والعدو وما إلى ذلك من تفاصيل ومحاولاته المستمرة الإعلان عن نفسه بشكل شبه يومي.
بالرغم من كل ذلك ، يبقى هذا التنظيم الآتي من مجاهل التاريخ تلفه طبقات سميكة جداً من الضباب، والعتمة ، والظلام الدامس ، وتبقى عشرات الأسئلة تحوم من حوله ولا تجد لها أجوبة نهائية تُمحى من خلالها الغباشة التي تغطي صورته.
في هذا السياق يتمّ تداول الكثير من التحليلات حول الحدثين الإجراميين الأخيرين في الضاحية الجنوبية لبيروت وفي العاصمة الفرنسية باريس ، فإذا كان معلوماً أنّ استهداف " معقل حزب الله " وما يشكل هذا الحزب من حليف أساسي للنظام السوري وعدوٍّ إيديولوجي أساسي للتنظيم ، فإنّ فرنسا بموقفها المتشدد من بشار الأسد وبُعدها الجغرافي عن ساحة المعركة وتراجع دورها العدائي للتنظيم بعد تربع روسيا على رأس القائمة من المفترض أن لا تكون فرنسا هذه أولوية في جدول هجوماته.
إلاّ أنّ أحداث باريس وحجم التخطيط ودقّة التنفيذ وعدد الضحايا جاء هو الآخر ليزيد من حجم الضباب آنف الذكر ، فإذا تبنينا الرواية القائلة بوقوف النظام السوري ومن معه من حلفاء وراء هذا التنظيم نجدنا نصطدم بتفجير الضاحية ، كما وأنّ تبني نظرية احتضان الحلف الآخر لهذا المسخ يجعلنا نصطدم أيضاً بالكثير من الأعمال الداعشية التي إنّما تقدم خدمات جليلة للنظام ليس أقلّها انشغاله بمقاتلة خصومه الأساسيين من جيش الحر والنصرة وغيرهما ، فضلاً عن عملياته التي تستهدف نفس دول هذا الحلف من السعودية وغيرها.
ولا يبقى أمامنا إلاّ النظرية الأكثر واقعية والتي تتوافق مع الوقائع على الأرض عبر القول أنّه لا وجود بالحقيقة لتنظيم داعشي واحد ، وأنّ داعش هذه ما هي إلا يافطة كبيرة للكثير من الأجهزة المخابراتية في المنطقة والعالم ولكلٍّ منها داعشها الخاص.
فداعش التي فجرت بالضاحية الجنوبية بإيعاز وتخطيط مخابراتي واضح هي ليست نفسها داعش التي فجرّت بباريس بتخطيط ودعم من أجهزة مخابراتية وكذلك هي الحال في داعش الموصل وقتالها للحكومة العراقية هي غير داعش سوريا واحتلالها لمناطق المعارضة.
وعليه وطالما أنّ الوضع السوري على حاله من الإشتعال ، وبالتالي فإنّ مصالح الدول المعنية بالحرب لم تحسم خياراتها بالتوجه نحو حلٍّ يرضي جميع أصحاب النفوذ ، فإنّ حرب مخابراتية سوف تبقى تهب رياحها السوداء على المنطقة والعالم ، وستبقى أجهزة مخابرات هذه الدول تعمل متخفية تحت يافطة داعش الحاضرة لإستيعاب الجميع تحت جناحها الأسود.
يبقى أنّ بعد أيّ انفجار أو عمل إرهابي يمكن أن نسمع به ، فإنّ السؤال الصحيح الذي يجب أن يطرح حينئذ ، هو أيّ فرع من داعش من قام بالجريمة ؟ داعش المحور الأميركي أو داعش المحور الروسي ؟