تستدعي الأعمال الإرهابية المتزامنة التي ضربت العاصمة الفرنسية باريس تداعيات إقليمية واستراتيجية، تطال إعادة رسم السياسة الخارجية الفرنسية تجاه الشرق الأوسط. وبقطع النظر عن الخلل الأمني الذي أظهرته الاعتداءات التي تتكرّر للمرة الثانية هذا العام، بعد جريمة «شارلي إبدو» في مطلع العام، إلا أن الضغط على صانع القرار الفرنسي لن يتمثل فقط في إعادة النظر بالهياكل الأمنية الفرنسية ومدى كفاءتها ونجاعتها، وهو نقاش داخلي فرنسي صرف. بل إن تداعيات الأعمال الإرهابية في باريس ستمتدّ أيضاً إلى إعادة النظر بما يمكن أن يُسمّى مسلمات السياسة الخارجية الفرنسية في عهد الرئيس الحالي فرانسوا أولاند، ما سيعني تحولاً محتملاً في سياسات فرنسا الداخلية والشرق أوسطية على حد سواء.
المهاجرون يدفعون الثمن
تختلف الحوادث الإرهابية عن الحوادث الطبيعية في كون الأولى تستدعي تداعيات تتجاوز الرقعة الجغرافية لمكان وقوعها، كما تملك القدرة على تغيير بوصلة السياسات الداخلية والخارجية. من المتوقع أن يستفيد اليمين العنصري في فرنسا وأوروبا من العملية الإرهابية، إذ إن دعايته الأساسية القائمة على العداء للمهاجرين على خلفية تباطؤ الأداء الاقتصادي، تكتسب تبريراً لعنصريتها الزاعقة على الأخص بين الشرائح الاجتماعية الأدنى في أوروبا. ومن المتوقع أيضاً أن يزداد الضغط على الحكومات الأوروبية المتشكلة من توليفة من أحزاب الوسط يميناً ويساراً، فيدفعها إلى تبني أطروحات اليمين العنصري بخصوص المهاجرين. في هذا السياق يبدو أن الضغط سيتزايد على حكومة أنجيلا ميركل في ألمانيا، أكبر مستقبل للاجئين السوريين في الاتحاد الأوروبي، لجهة التضييق أكثر على المهاجرين والتي تسبّبت بنقاشات ألمانية داخلية مطوّلة لن تنتهي آثارها سريعاً.
محاربة «داعش» أولوية فرنسية
بعد إعلان تنظيم «داعش» الإرهابي المسؤولية عن سلسلة الهجمات الإرهابية التي ضربت باريس، قُطع الشك باليقين. والملاحظ أن المسؤولية عن الأعمال الإرهابية تبلورت مبكراً جداً هذه المرة مع التغطية الفورية والمتوالية للأحداث، حين راحت أصابع الاتهام تتوجه للتنظيم الإرهابي حتى قبل إعلانه عن تبني الهجمات، في دليل واضح على انطباق مصادر التهديد مع الصورة الذهنية لها. على ذلك يبدو أن فرنسا ودولاً غربية ستعيد النظر في استراتيجياتها حيال سوريا والعراق، بحيث تحتل محاربة «داعش» الأولوية الغربية وتتقدّم على ما سواها من أولويات في صراعات المشرق العربي. ومن شأن وضع التنظيمات الجهادية عموماً و «داعش» كعدو رقم واحد، أن تنتهي مقولة وسردية «الإسلاميين المعتدلين» الذين طالما اعتُبروا في الغرب خصماً مقبولاً ضد نظم المنطقة الشمولية. طغت هذه المقولة والسردية على توصيف حراكات المنطقة منذ «الربيع العربي» وتفاقمت مع اندلاع الحراك السوري. إذ اعتُبر المعارضون الديموقراطيون ضعفاء بحيث لا يستطيعون محاربة النظم التسلطية ومنها النظام السوري. ولعل المقارنة بين «الجهاديين القبيحين» و «المعتدلين المحترمين» قد أصبحت من الماضي بعد أحداث باريس الإرهابية الأخيرة، بحسب ما يعتقد ميشال ماكينسكي، الباحث في «معهد الدراسات الأمنية والمستقبلية» بباريس. بمعنى آخر، ستتضرر صورة التنظيم الدولي لـجماعة «الإخوان المسلمين» من التغطيات الإعلامية الغربية التي ستخلط بين «داعش» و «القاعدة» والسلفيين و «الإخوان المسلمين»، كما ستتراجع الأصوات الغربية المطالبة بتفاهم مع الجماعة وستتسيّد التيارات والأجنحة في فرنسا والغرب الداعية إلى إرساء التحالف في المنطقة مع الأنظمة القائمة تحت شعارَي «الأمن والاستقرار».
تحالفات باريس تتغيّر؟
مثلما أدّت أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 في أميركا إلى تغيير جذري في سياساتها، ما قاد إلى احتلال بلدين شرق أوسطيين (أفغانستان 2001 والعراق 2003)، ستؤدي أحداث 13 تشرين الثاني في فرنسا إلى تعديل جوهري في سياسات فرنسا الشرق أوسطية. مع الفارق أن فرنسا لا تملك قدرات الولايات المتحدة، وبالتالي سينصبّ التغيير على فعالية أكثر في صراعات المنطقة وعلى رسم توجّهات جديدة للسياسة الفرنسية في الشرق الأوسط. حتى لحظة كتابة هذه السطور، تحالفت فرنسا شرق أوسطياً مع إسرائيل والسعودية وحاولت قطف بعض الثمار الاقتصادية من السوق الإيراني الواعد، حتى برغم موقفها المتشدّد في مفاوضات إيران مع الدول الست الكبرى. من الآن، يمكن تقدير أن السعودية تتصدّر قائمة الخاسرين من إعادة توجيه السياسة الخارجية الفرنسية، فالقرابة الفكرية بين الوهابية من ناحية، و «القاعدة» و «داعش» ومن على شاكلتها من تنظيمات من ناحية أخرى، تبدو عصية على الإخفاء. ومثلما بذلت السعودية جهوداً ضخمة بعد أحداث أيلول 2001 في حملات الديبلوماسية العامة للحفاظ على تحالفها الدولي مع أميركا، فالأغلب أن المملكة ستُضطر إلى القيام بخطوات مماثلة في أعقاب اعتداءات باريس الإرهابية، مع الفارق أن المملكة ليست في أفضل أحوالها راهناً، بسبب تورطها في حرب اليمن من ناحية، وبسبب التنافس بين الأجنحة السعودية الحاكمة من ناحية أخرى. وفقاً لخبراء فرنسيين في السياسة الخارجية، ستوضع درجة تعاون دولٍ خليجية مثل السعودية وقطر في محاربة تنظيم «داعش» الإرهابي على المحك، وإلا ستعتبر حليفة وداعمة له مثلما يروج خصوم السعودية في الغرب. ولئن أقنعت أميركا السعودية بالمشاركة في «اجتماعات فيينا» لحل الأزمة السورية، إلا أن الحرب على اليمن أوضحت أن الفراغ الذي يتركه الحوثيون خلفهم يملأ بمعرفة «داعش» و «القاعدة»، وهي نتيجة خطيرة للغاية. باختصار، ستضغط فرنسا ودول غربية على الرياض لتنسيق أجندة الأولويات، بحيث تحتل «داعش» و «القاعدة» ومثيلاتها قائمة أولويات الفعل السعودي المضاد.
في المقابل، ستفكر فرنسا في المزيد من التقارب مع إيران، وعدم الاقتصار على جني ثمار اقتصادية ثانوية منها. وبرغم أن التعاون الأميركي ـ الإيراني في العراق يصلح كسابقة، إلا أن التعاون الجديد بين فرنسا وإيران سيكون له تكاليف جانبية إقليمية تتعلق بالرياض وتل أبيب، حليفَي باريس اقتصادياً وسياسياً. وإن كان التعاون الإقليمي المرتقب بين باريس وطهران سيبرز من بين تداعيات أحداث باريس الإرهابية ـ كما هو متوقع - إلا أن تعاوناً كهذا سيكون له أبعاد تتعلق بتحالفات إيران الإقليمية. ومن هذه الأبعاد أن «قوات الحشد الشعبي» في العراق مثلاً لا تحظى بسمعة جيدة في الغرب والمنطقة بسبب هويتها الطائفية الواضحة، ما يعرقل إدماج المكوّن العراقي السني في العملية السياسية ويجعل الاستقرار في العراق بعيداً لذلك.
في المقابل، ستتجه فرنسا المتحفظة نسبياً حيال تركيا وأدوارها في المنطقة إلى الانفتاح أكثر عليها، خصوصاً بعد الفوز الانتخابي لأردوغان وحزبه، برغم التحديات الداخلية التي ستواجه أردوغان. بكلمات أخرى، ستعني إعادة توجيه السياسة الفرنسية الشرق أوسطية انضمام إيران والعراق والأكراد كشركاء مقبولين لفرنسا في محاربة الإرهاب، وهي نتيجة لم يحتسبها مَن قام بالتفجيرات!
السفير