بدأت فرنسا امس الحداد ثلاثة أيام، لتتشح بالسواد حزنا على ارواح 129 شخصا قتلوا في باريس على ايدي ارهابيي «داعش« في سلسلة الهجمات التي اظلمت مساء اول من امس مدينة النور، مروعة الرأي العام الفرنسي والاوروبي والعالمي وصفت عن حق بـ«11 ايلول فرنسي» سيترك آثاره على الديموقراطية الفرنسية لأمد بعيد، مع مشاهد انغلاق غير مسبوقة في هذا البلد المعروف بانفتاحه على العالم، وسط صور الشوارع الفرنسية الشهيرة وهي شبه مقفرة الا من اعداد كبيرة من رجال الشرطة والجنود وهم يضعون الاصبع على الزناد.

ورأى الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ان الهجمات تمثل «عملا من أعمال الحرب التي يشنها «داعش« ضد فرنسا، ويجب ان نرد على الارهابيين من دون رحمة».

وتكثفت التحقيقات الرسمية الفرنسية في هذه الاحداث الدموية، وأكدت الشرطة ان 8 ارهابيين من الذين نفذوا العمليات قتلوا.

واعلن تنظيم «داعش» في بيان تبنيه الهجمات، محذرا السلطات الفرنسية من ان «فرنسا ستبقى هدفا لمجاهدينا في حال استمر سلاحها الجوي باستهداف الدولة الاسلامية».

ويبدو ان المجموعة الارهابية احتوت ارهابيين متعددي الجنسيات، اذ وردت تقارير رسمية عن العثور على جوازي سفر سوري ومصري قرب اشلاء ارهابيين اثنين نفذا تفجيرين انتحاريين قرب «استاد دو فرانس»، فيما تعرفت الشرطة في حادثة مسرح «باتاكلان» على جثة فرنسي ذي صلة بمتشددين اسلاميين وعثرت قرب جثة ارهابي آخر على جواز سفر سوري.

وبحسب السلطات الفرنسية، فإن ستة مواقع مختلفة في باريس استهدفها «داعش« هي استاد دو فرانس الدولي في الضاحية الشمالية لباريس (عدد القتلى 4)، مسرح باتاكلان (89 قتيلا)، شارع شارون (18 قتيلا)، مطعم «لو بوتي كامبودج» في شارع اليبير (12 قتيلا)، شارع لا فونتان اوروا (5 قتلى)، جادة فولتير (قتيل واحد). ففي آخر حصيلة رسمية لاعتداءات باريس، قتل 129 شخصا وجرح 352 آخرين، بينهم 99 في حالة حرجة. 

وكانت المستشفيات العامة في باريس أعلنت أنها تلقت 300 جريح منذ اعتداءات مساء الجمعة بينهم 80 جريحا في «حالة حرجة» و177 في حالة «أقل خطورة». وأوضحت دائرة المساعدة العامة لمستشفيات باريس التي تشرف على كل المؤسسات الاستشفائية، أن هذا العدد يضم ايضا 43 «شاهدا أو قريبا» تطلب وضعهم نقلهم الى هذه المستشفيات. وبعد ظهر امس، خرج 53 شخصا من المستشفيات بعد تلقيهم العلاج الكافي. وكون باريس عاصمة عالمية متعددة الجنسيات فليس جميع الضحايا من الفرنسيين فقد عرف منهم حتى الآن تونسيتان وجزائريان وبريطاني واميركية.

وفي اطار التطورات الميدانية والتحقيقات، تحدثت بعض وسائل الاعلام المحلية والدولية عن ان قوى الامن الفرنسية لا تزال تتقصى اثر سيارة كان على متنها ارهابيون مسلحون نجحت في الفرار من مسرح الاحداث. هذا فيما أكدت مصادر بالشرطة الفرنسية مقتل 8 إرهابيين شاركوا في الاعتداءات التي استهدفت مناطق عدة في باريس، منهم 3 كانوا يرتدون أحزمة ناسفة. ووردت أنباء، لم يتم تأكيدها رسميا، بأن 7 من المنفذين كانوا يرتدون الأحزمة الناسفة، فيما أردت الشرطة الثامن برصاصها. 

وأعلن مدعي عام الجمهورية في باريس فرنسوا مولان أن التحقيق الذي فتح في اعتداءات باريس يجب أن يحدد ما إذا كان هناك «متواطئون أو مشاركون لا يزالون فارين». وفتحت السلطات الفرنسية تحقيقاً في ما اسمته «جرائم قتل على علاقة بمنظمة إرهابية». واوضح مولان ان «الارهابيين استخدموا في احزمتهم الناسفة مادة (تي آي تي بي) الترايسيتون تيبروكسايد وهي مادة لا تستطيع الكلاب البوليسية شمها». واكد انه بحسب نتائج التحقيق حتى الآن يمكن تقسيم الارهابيين الى ثلاث مجموعات «فريق اتجه الى استاد دو فرانس. وفريق كان يستخدم سيارة سوداء من طراز (سيات) وهو الفريق الذي قام بإطلاق النار على الناس في عدة شوارع. اما الفريق الثالث فكان يستخدم سيارة سوداء من طراز (فولكسفاغن بولو)». واكد شهود عيان ان ارهابيي مسرح باتاكلان صرخوا «الله اكبر» وحملوا «هولاند المسؤولية لتدخله في سوريا والعراق». 

وقال مولان ان «أحد المسلحين الذين قتلوا بعد مهاجمة قاعة مسرح «باتاكلان» فرنسي الجنسية وعرف بصلاته مع متشددين إسلاميين وارتكاب جنح سابقة». واشار الى انه «تم التعرف على هوية المسلح من بصمات أصابعه وهو من كوركورون (ضاحية جنوب باريس) ويبلغ من العمر 30 عاما»، كما اكد مولان «العثور على جواز سفر سوري قرب جثة الارهابي الثاني في عملية المسرح». وأفادت مصادر اخرى مقربة من التحقيق انه تم «العثور على جواز سفر سوري قرب جثة أحد الانتحاريين الذين فجروا أنفسهم قرب ملعب استاد دو فرانس». وترجح السلطات الفرنسية بعدما تلقت اشعارا من اثينا بخصوص هوية الارهابي السوري ان «الانتحاري السوري البالغ من العمر 45 عاما كان بين اللاجئين الذين استضافتهم فرنسا قادمين من اليونان الشهر الفائت». 

واعلنت الشرطة اليونانية ان شخصين تلاحقهما الشرطة الفرنسية في اطار اعتداءات باريس سبق ان تسجلا في اليونان هذا العام كطالبي لجوء. وطلبت السلطات الفرنسية من نظيراتها اليونانية التأكد من جواز سفر احد هذين الشخصين وبصماته الرقمية ومن بصمات الاخر انطلاقا من اعتقادها انهما سجلا اسميهما في اليونان التي تشكل بوابة الاتحاد الاوروبي للاجئين وخصوصا السوريين.

وقالت وسائل إعلام فرنسية «ان جواز سفر مصريا قد وجد قرب جثة الانتحاري الثاني في الموقع». 

وقال شاهد إن الشرطة أخلت المنطقة المحيطة ببرج ايفل بباريس ومحيط متنزه شان دي ميرس. وقال شاهد آخر يقيم قرب شان دي ميرس إن انتشارا مكثفا للشرطة شوهد عند فندق بولمان قرب برج ايفل. ثم قال متحدث باسم وزارة الداخلية الفرنسية إن تطويق الشرطة فندق بولمان في الضاحية الخامسة عشر بباريس لفترة وجيزة كان إنذارا كاذبا.

وكثفت الدول الجارة لفرنسا امن حدودها من اجل القاء القبض على اي ارهابي فار محتمل او اي ارهابي آخر قد يكون في طريقه لشن هجمات جديدة. وألقت الشرطة البلجيكية القبض على 3 مشتبه بهم عند الحدود و4 مشتبه بهم اثر مداهمات لبعض العناوين في بروكسل. ويعتقد ان الذين ألقي القبض عليهم لهم علاقة بسيارة استأجرها ارهابيو باريس من بلجيكا وعثرت عليها الشرطة الفرنسية مركونة امام مسرح «باتاكلان»، واكدت وسائل الاعلام البلجيكية ان «التنسيق الامني بين باريس وبروكسل يشير حتى الآن الى ان ثلاثة من ارهابيي «داعش« الذين نفذوا اعتداءات باريس كانوا مقيمين في بلجيكا». وفي بريطانيا قامت السلطات في مطار «غاتويك» بإخلاء مبنى المطار بعدما اعتقلت الشرطة البريطانية امس رجلا فرنسيا عمره 41 عاما بحوزته سلاح في المطار، وبحسب ما اعلنته الشرطة البريطانية في بيان «تم العثور على امتعة شخصية وما يبدو انه مسدس بحوزة المتهم، وقد تم ارسال هذه المحتويات الى الفحص الجنائي. وحتى الآن لم نحدد بعد فاعلية السلاح».

وفي العاصمة الهولندية اعلنت الشرطة «اخلاء طائرة ايرباص 321 كانت متجهة الى فرنسا بهدف تفتيشها قبل اقلاعها من مطار امستردام، وذلك بعد رصد القوى الامنية تهديدات وجهت الى هذه الرحلة عبر موقع تويتر». وقال الناطق باسم شرطة امستردام دنيس مولر «نتعامل دائما بجدية مع التهديدات، وقررنا اجلاء الركاب وتفتيش الطائرة»، لكنه لم يؤكد وجود صلة بين هذا الامر واعتداءات باريس.

واعلنت السلطات في برلين ان «ارهابيا ضبطت في سيارته في بافاريا شحنة من الاسلحة مطلع الشهر الجاري قد يكون له علاقة بالمخطط الارهابي الذي استهدف باريس اول من امس». 

وذكر بيان لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن «وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر تحدث هاتفيا صباح امس مع نظيره الفرنسي جان إيف لو دريان، وأكد له التزام واشنطن بمساعدة فرنسا بأي طريقة وأن الجانبين سيظلان على اتصال وثيق.

ورأى الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ان الهجمات تمثل «عملا من أعمال الحرب التي يشنها داعش ضد فرنسا، ويجب ان نرد على الارهابيين من دون رحمة».

وأكد رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس مساء ان فرنسا «في حالة حرب» و»ستضرب عدوها» المتمثل بتنظيم «داعش» بهدف «تدميره».

وصرح فالس لقناة «تي اف 1» غداة اعتداءات باريس التي خلفت 129 قتيلا على الاقل «نحن في حرب، سنتحرك ونضرب هذا العدو» الجهادي «من اجل تدميره» في فرنسا واوروبا وسوريا والعراق. واكد ان الرد الفرنسي سيكون «بالمستوى نفسه لهذا الهجوم».

وتوالت ردود الفعل الدولية المنددة بالجرائم الارهابية البشعة التي خطفت الحياة من الباريسيين. ولم يكتف زعماء الدول العالم بإبداء الغضب والتعهد بالتضامن، فقد تعهد عدد منهم بتشديد الأمن. ونصحت بعض الدول مواطنيها بعدم السفر إلى فرنسا. 

وبين الدول التي اعلنت تدابير لتعزيز الأمن بلجيكا وهولندا المجاورتان لفرنسا. أما إسبانيا جارة فرنسا من الجنوب الغربي فقالت إنها أبقت على حالة التأهب عند المستوى الرابع على مقياس من خمس درجات. وقال رئيس الوزراء الهولندي مارك روته إن «بلاده ستشدد الأمن في حدودها ومطاراتها. ان الهولنديين في حالة حرب مع «داعش« وليس مع الاسلام». وأضاف «إن قيمنا وحكم القانون لدينا أقوى من تطرفهم». وفرضت بلجيكا قيودا إضافية على الحدود وعلى رحلات القطارات والطائرات القادمة من فرنسا. وطلب رئيس الوزراء البلجيكي شارل ميشيل امس من مواطنيه عدم السفر إلى باريس إلا في حالات الضرورة. وأصدرت هونغ كونغ بدورها تحذيرا لمواطنيها من السفر الى فرنسا. وفرضت بلغاريا قيودا إضافية على حدودها تتعلق بالسفر بالسيارات.

وفي لندن قال مارك راولي نائب مدير شرطة العاصمة البريطانية في حديث لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) انه «سيتم تعزيز عمليات الشرطة في بريطانيا لكن لن يتم تغيير حالة التأهب وهي حاليا عند ثاني أعلى درجات الخطورة».

وقالت الولايات المتحدة إنه ليس لديها معلومات تخالف تقييم فرنسا بمسؤولية «داعش» عن هجمات باريس 

وقال البيت الأبيض في بيان بعد اجتماع الرئيس الأميركي باراك أوباما بمجلس الأمن القومي «راجع الفريق المشهد من وجهة نظر مخابراتية ولا توجد لدينا أي معلومات تتناقض مع التقييم الفرنسي المبدئي بمسؤولية الدولة الإسلامية.»

وأضاف البيان أنه بينما لا يوجد تهديد محدد أو يعتد به للولايات المتحدة، فإن المسؤولين راجعوا «وضع الأمن الداخلي«.

وشددت نيويورك وبوسطن ومدن أميركية أخرى إجراءات الأمن، لكن مسؤولين امنيين قالوا إن الوجود المكثف لقوات الشرطة إجراء احترازي وليس ردا على أي تهديدات محددة. 

وأعلنت السلطات الفرنسية إغلاق برج إيفل المتشح حداداً بالسواد لأجل غير مسمى، فقد أطفئت أنوار البرج الشهير حزناً على من قضوا في الفاجعة. وفيما فضل برج «إيفل» اللون الأسود حدادا على ضحاياه، اختارت معالم أخرى حول العالم ارتداء ألوان العلم الفرنسي كتعبير عن تضامن شعوب دول كثيرة مع فرنسا في مصابها، منها برج التجارة العالمي في نيويورك، وبعض فنادق سان فرانسيسكو ودالاس في الولايات المتحدة وبرج «سي ان» في تورونتو بكندا.

سياسيا بدأت الاحزاب اليمينية القومية المتطرفة في فرنسا واوروبا باستغلال هجمات باريس لتحقيق مكاسب ضد الاحزاب الحاكمة والمعتدلة. ويتوقع ان تزداد شعبية القوميين المتشددين في فرنسا خلال الاسابيع والاشهر المقبلة، كما ستصبح مسألة اللاجئين كتلة نار حارقة بالنسبة للحكومات والقادة الاوروبيين وفي مقدمهم المستشارة الالمانية انغيلا ميركل وبديهياً هولاند.