قبل الدخول بقراءة الحدث وخلفياته بعيدا عن لغة مشاعر الالم والحزن والتضامن مع الابرياء وكل الدعاء للجرحى بالشفاء. لا بدّ من التأكيد أولاً أن كل هذه العواطف الانسانية الجياشة التي تتدفق على الضاحية و أهلها في مثل هذه الظروف الصعبة يجب أن لا تمنع من محاولة مقاربة الحدث مقاربة عقلية تساهم في تفعيل النقاش من أجل الوصول الى التعلم منه، لأن مقولة الإمام الخميني “اقتلونا فإن شعبنا سيعي أكثر فأكثر” لا يتأتى هذا التعلم من مجرد قتلنا كما يفهم خطاءا هذا الشعار، بل التعلم يجب أن يكون بالوقوف مليًا بعد كل مقتلة ودراسة أسبابه ونتائجه وكل الظروف المسببة له.
لا شك أنّ جريمة البرج تختلف عن سابقاتها من العمليات الاجرامية، بحيث تظهر بوضوح أنها عملية مدروسة بإتقان ومخطط لها بشكل محترف، وهذه النتيجة لا تحتاج إلى خبراء عسكريين أو أمنيين،فعدد الانتحاريين الثلاثة دفعة واحدة وطريقة التفجير، مع اختيار مكان الجريمة يوحيان أنّ العمل مدروس وتقف خلفه أجهزة مخابراتية شيطانية.
هذا في حين كنا قد شاهدنا قبل ذلك عمليات إنتحارية لم تصب إلّا منفذها، أو تصيب أضراراً مادية وعددا قليلا مجدا من الضحايا، مما يعني بأن هذه العملية هنا إنما تأتي بسياق مختلف تماما عن سابقاتها.
وبعد الذي تقدم يصبح الحديث عن مجرد الإنتقام وعن أن الخلفية وراء جريمة البرج إنما تأتي في سياق ردة الفعل عن تدخل حزب الله في القتال بسوريا فقط، بمثابة التبسيط والتسطيح للجريمة، بالخصوص أن الضاحية الجنوبية قد انتهت مؤخرا من أكبر تجمعات بشرية نظمتها، وتجلّت في المسيرات والمجالس العشورائية، والتي خرجت منها سالمة والحمدلله، وهذا يؤكد مرة جديدة بأن قرار التفجير والاجرام إنما اتخذ قبيل الحادثة ولم يكن موجودا قبل ذلك.
وفي محاولة لمعرفة المستجد السياسي الكبير الذي يمكن أن يشكل حافزا عند مشغلي المجرمين وداعميهم، فلا يبدو بالأفق من تحول إلاّ ما يجري من محادثات في فيينا بين كل القوى الدولية المعنية بالازمة السوريا، وما ينقل عن رغبة روسيا العارمة بضرورة التوصل الى تسوية سياسية سريعة، ولا يخفى على أي متتبع أن العقدة كآداء إنما هي مستقبل بشار الأسد وما يدور حولها.
وفي هذا السياق لا بدّ من الاشارة أن حزب الله وما يشكل من قوة فاعلة على الساحة السورية وفي دمشق بالخصوص، وموقفه النهائي المعلن الداعم لبشار الأسد والمتمسك الى ابعد الحدود في بقائه واستمراره بقصر المهاجرين، متجانس هذا الموقف مع موقف الحرس الثوري الذي أعلن عنه مؤخرا محمد علي جعفري، ومتباين كما قال مع الموقف الروسي.
أضف الى ذلك لا بد من التذكير أنّ هذه الجريمة النكراء إنما حصلت عشية الاجتماع الثاني المقرر بفيينا، مما يبرر التساؤل المنطقي بالترابط المفترض بينهما، وهذا يجرنا حتما للسؤال الكبير هل تحولت الضاحية الى صندوق بريد هي الاخرى مضافة طبعا للميدان السوري؟ وهل تحولت الضاحية الجنوبية الى بيدق في لعبة الكبار؟ فإذا كان الجواب إيجابيا، هذا يعني أن الضاحية الآن هي ضاحية حلب، وليست ضاحية بيروت ….
حمى الله أهلنا فيها وفي كل لبنان .