أكتب رثاءً لنفسي قبل أن أكتبه لغيري.
أصرخ في وجوه الجميع، وفي الليل البهيم، أن هؤلاء هم أهلي الذين كانوا يصلّون في البرج هناك. وهم أهلي الذين كانوا يقطفون الحياة وضحكة الوجود المرّة، وقد شاءت أقدارهم أن يمرّوا من هناك.
عرفتُ ذلك من جسمي الذي رأيتُه يتفكّك من تلقائه، ومن يديَّ اللتين تذرفان جروح الركام.
قبل نزول العتمة كنتُ متماسكاً خشيةَ أن يصاب أحدٌ بوجع الخريف.
ثمّ صرتُ بعد النزول، صرتُ رثاء الخريف لنفسه، قبل أن يكون رثاءً للآخرين.
مَن يثكل ببلاده مثلي، لا يعود صالحاً لزهو الربيع ولا لحنكة الصيف.
شأني شأن هؤلاء الذين ذهبوا ويذهبون مع بداهات الحياة.
ألا ترون أنهم قد ذهبوا ويذهبون من حديقة قلبي؟!
ألا ترون أنهم شجرٌ يتشلّعون كالأطفال الذين يتشلّعون من عمري؟!
أيها الناس، هؤلاء هم أهلي.
عرفتُ ذلك من الذهول الذي جعلني لا أتعرّف إلى أوراقي أمامي. ولا إلى الكتب المحبّرة التي في رأسي.
وقد عرفتُ ذلك من جسمي الذي لم أعد أعرف أنه جسمي. ومن الشوارع التي لم أعد أعرف أنها شوارعي. ومن النوم الذي لم أنمْه. ومن الضوء الذي خجلتُ أن أراه في الصباح. ومن القهوة التي داخلها شيءٌ كثيف من سمّ الوجود. ومن اليأس الذي صار يشبه إلهي وعدمي.
أيها الناس، أصرخ في وجوه الجميع، وفي الليل الوطني البهيم، أن هؤلاء هم أهلي. وقد عرفتُ ذلك من اللامعنى الذي يأخذ بيد الوحش الذي يفترس رونق العباد والبلاد.
في الأوقات الصعبة، كهذه، عندما لا يعود المرء قادراً على اجتراح الماء من أجل ذاته، يخترع من عدم حياته ماءً للمحتاجين إلى ماء.
أيها الموجوعون، خذوا مائي.
خذوه من أجلي. ومن أجلكم. وخذوه من أجل البلاد